كانت سوريا على مر العصور ملتقى حضارات وثقافات متباينة، ما جعلها واحدة من أكثر دول الشرق الأوسط تنوعاً طائفياً وعرقياً وثقافياً.
تعاقبت على البلاد التي تعد من أقدم المناطق المأهولة بالسكان في العالم حضارات عدة، بدءاً من ممالك إبلا وماري وأوغاريت السامية القديمة، مروراً بالحيثيين والآراميين، ثم الآشوريين والبابليين والفرس. لاحقاً، خضعت لحكم الإسكندر المقدوني والهيلينيين، تلاهم الرومان والبيزنطيون، وصولاً إلى الحكم الإسلامي الذي جعل دمشق عاصمة للأمويين. وفي العصر الحديث، حكمها العثمانيون أربعة قرون ثم خضعت للانتداب الفرنسي حتى استقلالها عام 1946؛ مما شكل فسيفساء مميزة فيها.
في هذا التقرير، نسلط الضوء على الطوائف الدينية والأعراق التي تشكل نسيج الهوية السورية، ونعرض مواقفها من الثورة السورية التي اندلعت عام 2011 وتحولت لحرب أهلية فيما بعد، وانتهت بسقوط حكم الأسد في ديسمبر/كانون الأول الجاري.
الطوائف الدينية: أقلية حكمت أغلبية
على امتداد مساحتها التي تبلغ 185.180 ألف كم مربع، تحتضن سوريا طوائف دينية متعددة.
يشكّل المسلمون السنّة غالبية السكان في البلاد. وعلى الرغم من أن إحصاءات السكان الرسمية لا تشمل الدين أو العرق، إلا أن تقرير وزارة الخارجية الأمريكية للحريات الدينية لعام 2022 يُشير إلى أن 74 في المئة من السكان هم من الطائفة السنية التي تتنوع في أعراقها بين العرب الأكثرية، والأكراد والشركس والشيشان، وبعض التركمان
ويتوزع السنّة في معظم المدن والقرى السورية، مع كثافة ملحوظة في دمشق وحلب وحمص.
وفي عام 2020، أشار تقرير صادر عن موقع "أوريان 21" الفرنسي للدراسات الاستراتيجية إلى أن الحرب غيّرت من طبيعة التركيبة السكانية للبلاد بشكل كبير، فلم يعد العرب السنّة يمثلون سوى نصف السكان بعد أن كانوا الأغلبية.
ويُرجع الكاتب بيير إيف بايي في تقريره هذا التغيير إلى لجوء عدد كبير من العرب السنة لدول أخرى، إضافة إلى النهج الطائفي الذي اعتمده الرئيس بشار الأسد في تعامله مع المعارضين لحكمه.
احتفالات في ساحة الأمويين في دمشق، بعد سقوط حكم الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024.
ومنذ اندلاع الحرب التي امتدت لـ13عاماً، بات من الصعب تحديد عدد السكان بدقة، لكن تقديرات البنك الدولي لعام 2023 تشير إلى أن عدد السوريين يبلغ نحو 23 مليون نسمة.
وذكر مركز جسور للدراسات أن عددهم عام 2023 بلغ تقريباً 26 مليون نسمة، منهم تقريباً 16مليوناً يقطنون داخل سوريا، و9 ملايين تقريباً خارجها، إضافة إلى 897 ألف شخص بين قتيل ومفقود.
وإلى جانب السنّة، هناك جماعات إسلامية أخرى، بما في ذلك العلويون والإسماعيليون وطوائف شيعة أخرى، وكلهم مجتمعين يشكلون 13 في المئة من السكان، بحسب تقديرات الخارجية الأمريكية.
والعلوية طائفة من طوائف الشيعة في الإسلام، وتعني كلمة علوي "تابع علي" وهو ابن عم النبي محمد وصهره. ويشكّل العلويون في سوريا أكبر أقلية دينية بنسبة تبلغ 10 في المئة من مجموع السكان، بحسب رويترز.
استقر العلويون في سوريا منذ القرن الثاني عشر الميلادي، ويتمركزون بشكل رئيس على ساحل البحر الأبيض المتوسط، في مدينتي اللاذقية وطرطوس.
تاريخياً، عُرف العلويون كطائفة مهمشة، ولكن صعود عائلة الأسد العلوية إلى سدة الحكم غير الموازين تماماً؛ فبعد انقلاب عام 1970 بقيادة حافظ الأسد، والد الرئيس بشار الأسد، عزز العلويون سلطتهم على المؤسسات الرئيسية والأجهزة الأمنية في البلاد وأصبحوا جزءاً لا يتجزأ من هيكل الدولة.
وتعتبر سوريا المركز الرئيسي لتجمع أبناء الطائفة الإسماعيلية النزارية في الشرق الأوسط، الذين يعتبرون أنفسهم الجماعة الشيعية الرئيسية الثانية بعد الاثني عشرية.
ويبلغ عدد الإسماعيليين نحو 250 ألفاً، ويمثلون واحداً في المئة من إجمالي عدد السكان في سوريا. ويعيشون في مدينة السلمية التي تقع على بعد 30 كم شرق مدينة حماة، كما توزعوا في عدد من المدن والقرى المحيطة بحماة مثل مصياف والقدموس ونهر الخوابي.
أما الدروز الذين يُشيرون إلى أنفسهم باسم "الموحدون" أي المؤمنون بتوحيد الإله، فيمثلون نسبة ثلاثة في المئة من الشعب السوري أي ما يقارب 700 ألف نسمة. ويُعتقد أن الطائفة الدرزية قد انشقت عن الإسماعيلية خلال المرحلة الفاطمية في القرن العاشر، ولكن بعض الباحثين يعتبرونها عقيدة مستقلة بحد ذاتها.
من هم الموحدون الدروز؟
ويرجع تاريخ الدروز في سوريا إلى حوالي ألف عام، وكان لهم دور كبير في محاربة الاحتلال الفرنسي لسوريا، حيث رفضوا تشكيل الدولة الدرزية وأشعلوا نيران ثورة سوريا الكبرى عام 1925.
وتعيش الغالبية الدرزية في مدن السويداء وصلخد وشهبا والقريا في جبل العرب وجرمانا قرب دمشق ومجدل شمس في الجولان السوري المحتل.
المطران بطرس مراياتي يترأس قداس صباح عيد الميلاد في الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية في مدينة حلب شمال سوريا، في 25 ديسمبر/كانون الأول 2023.
وكانت سوريا مركزاً حضارياً مهماً للديانة المسيحية، إذ يوجد العشرات من الكنائس والأديرة الشاهدة على ذلك. وقبل عام 2011 كان يعيش 2.2 مليون مسيحي بنسبة 10 في المئة من الشعب السوري، ومع اندلاع الحرب فرّ كثيرون خارج البلاد، وتقّدر منظمة "الأبواب المفتوحة" الأمريكية غير الحكومية نسبة من بقوا بثلاثة في المئة فقط أي ما يقارب 638 ألفاً.
وما يزال معظم المسيحيين يقطنون مدن دمشق وحلب وحمص وحماة واللاذقية والمناطق المحيطة بها، إلى جانب محافظة الحسكة في المنطقة الشمالية الشرقية من البلاد. ويتوزعون بين طوائف عدة، منها الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية.
وإلى جانب ما سبق، يوجد الإيزيديون الذين ينتشرون في مدينة الحسكة وقراها وحلب وريفها وكذلك عفرين.
يتحدث اليزيديون اللغة الكردية بشكل رئيسي. ورغم أنه لا توجد أرقام رسمية حديثة لعدد الإيزيديين في سوريا، يُقدر اتحاد الإيزيديين في عفرين أنه لا زال هناك حوالي 2000 إيزيدي في عفرين، مقارنة بنحو 50 إلى 60 ألف قبل عام 2011.
بلد غني بالأعراق
لا يقتصر التنوع السوري على البعد الطائفي فقط، بل يمتد ليشمل مجموعات عرقية متعددة مثل الأكراد والأرمن والتركمان والشركس وغيرهم.
والعرب هم الأغلبية الساحقة في سوريا، يليهم الأكراد. ولا توجد إحصائيات رسمية عن عدد الأكراد في سوريا، إلا أن معظم التقديرات تشير إلى أن أعدادهم تتراوح بين 2 و3 ملايين فرد، يتوزعون في مناطق الحسكة ومدينة القامشلي وعين العرب وعفرين وأحياء في دمشق وحلب، بحسب مركز جسور للدراسات.
وتعرض الأكراد السوريين للكثير من القمع والحرمان من الحقوق الأساسية، فلم تعترف الحكومات المتتالية بالهوية الكردية، ومنعتهم الدولة من استخدام اللغة الكردية في مدارسهم أو في الصحف والكتب.
ولم يمنح حوالي 300 ألف من الأكراد الجنسية السورية منذ ستينيات القرن الماضي، وصودرت الأراضي الكردية وأعيد توزيعها على العرب في محاولة "لتعريب" المناطق الكردية. وغالبية الأكراد من المسلمين السنّة، وفيهم أعداد قليلة من المسيحيين واليزيديين.
الأكراد: قرن من الثورات والإخفاقات
والأرمن الذين ينحدرون من أرمينيا التاريخية هم أيضاً جزء من النسيج الوطني السوري، ففي عام 1915 هاجروا بأعداد كبيرة هرباً من المذابح التي ارتكبها الجيش العثماني بحقهم.
ومعظم الأرمن يعتنقون الديانة المسيحية ولهم لغتهم الخاصة. وكان تعدادهم في سوريا قبل عام 2011 يقدر بحوالي 100 ألف، حيث سكن أكثر من 60 ألف منهم في حلب، فيما توزع الآخرون على مدن الكسب والقامشلي واليعقوبية وعين العرب ودير الزور والعاصمة دمشق.
ومنذ عام 1928 يحظى الأرمن بتمثيل في الهيئة التشريعية السورية، وسوريا هي البلد العربي الثاني بعد لبنان الذي اعترف بـ "الإبادة الأرمنية".
وأثرت الحرب على الوجود الأرمني في البلاد، حيث وصل عدد اللاجئين الأرمن السوريين في أرمينيا إلى أكثر من 15 ألفاً عام 2015.
مقاتلون تركمان في مدينة حلب شمال سوريا عام 2013.
وصل التركمان إلى أراضي سوريا والعراق وإيران في القرن الحادي عشر. وبالنسبة لسوريا يتمركز التركمان - الذين ينتمون إلى العرق التركي - بشكل رئيسي في الشمال، في منطقة جبل التركمان في اللاذقية بالقرب من الحدود التركية، وكذلك في حلب وإدلب وحمص وطرطوس ومنطقة دمشق.
وليست هناك إحصائيات دقيقة عن عدد التركمان، لكن يقدر عددهم بين 1.5 إلى 3.5 مليون. وفي ظل حكم الأسد، مُنع التركمان من الكتابة أو الحديث بلغتهم التركمانية ولم تعترف الحكومة بهويتهم العرقية.
أما الشركس الذين تعود أصولهم إلى القوقاز، وصلوا سوريا عام 1878، وهناك سكنوا بثلاث مناطق رئيسية هي محافظة القنيطرة، وكانت تضم الكتلة الكبرى منهم قبل احتلال إسرائيل للجولان، ومنطقة حلب، وفي مدينة دمشق، وبعض القرى في ضواحيها. والشركس مسلمون سنّة.
كيف كانت مواقف الطوائف والأعراق منذ 2011؟
بدأت الثورة السورية على شكل مظاهرات سلمية ضد الرئيس بشار الأسد. أشعل ارتفاع نسبة البطالة والفساد وغياب الحريات السياسية وقود الثورة، التي سرعان ما تحولت إلى حرب أهلية واسعة النطاق.
وانطلقت أولى المظاهرات في المدن ذات الأغلبية السنية، مثل درعا وحمص وحماة، إذ شعر العديد من سكانها بالتهميش السياسي والاجتماعي في ظل حكم النظام الذي يعتمد بشكل أساسي على دعم الأقليات. ونتيجة لذلك، شكلت المناطق السنية القاعدة الشعبية الأساسية للحراك المعارض، وسرعان ما تحولت هذه المناطق إلى مراكز للصراع مع تصاعد العنف.
وبحكم انتماء بشار الأسد إلى الطائفة العلوية، وقف العديد من العلويين إلى جانب النظام خوفاً من الانتقام الطائفي في حال سقوطه. وعلى الرغم من ذلك، ظهرت أصوات معارضة داخل الطائفة، لكنها ظلت محدودة مقارنة بالدعم العام له.
واتخذ الأكراد موقفاً حيادياً ولم يواجهوا النظام أو يثوروا عليه. وفي منتصف عام 2012، انسحبت القوات السورية من المناطق الكردية لتركز على قتال المسلحين في مناطق أخرى، ففرضت القوات الكردية سيطرتها على المنطقة. وفي عام 2014 أعلن الأكراد إقامة الحكومة الكردية الإقليمية، وأكدوا على أنهم لا يسعون إلى الاستقلال، بل إلى "إدارة محلية ديمقراطية".
أما موقف المسيحيين فاتسم بالحذر، حيث خشي كثير منهم من صعود التيارات الإسلامية المتطرفة التي قد تهدد وجودهم. وبينما اختار بعضهم دعم المعارضة، فضّل العديد منهم الحياد أو دعم النظام.
ونشرت صحيفة التلغراف البريطانية تقريراً عام 2012، قالت فيه إن "المجتمع المسيحي في سوريا حاول أن يكون حيادياً، لكنه قرر في حلب تجنيد شبان الكشافة لحماية الكنائس، وقَبِل السلاح من الجيش السوري، بعد أن انتقلت الحرب إلى المدينة وضواحيها"، بحسب التقرير.
وحاولت الطائفة الدرزية الحفاظ على حيادها النسبي. ورغم بعض التحركات المعارضة للنظام داخل مدينة السويداء، إلا أن الأغلبية فضلت تجنب المواجهة مع النظام، مع النأي بالنفس عن وقوع أي اشتباكات مسلحة في مناطقهم.
أما التركمان فانخرطوا في صفوف المعارضة، وشكلوا أولوية مسلحة قاتلت بشكل رئيسي الجيش السوري وتنظيم الدولة الإسلامية.
وأدت الحرب على مدار 13 عاماً إلى مقتل ما لا يقل عن 600 ألف شخص بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، وفرار الملايين خارج وطنهم في أكبر أزمة لجوء في الزمن الحديث، كما تصفها مفوضية اللاجئين لدى الأمم المتحدة.