لم يحدث ان أضَاعت الأمة العربية البوصلة كما تُضَيُعُها في هذه الأيام. ولم يحدث ان مر الوطن العربي منذ ما بعد الحرب العالمية الاولى (1914-1918) بمثلِ هذه الحالة من التفكك والقنوط والعجز عن فعل اي شيء، قنوط وصل حد الرضا بكل ما يفعله الغير والخارج. اذا ما عدنا بالتاريخ الى المرحلة التي احتلت فيها بريطانيا وفرنسا الوطن العربي وقسمته بالشكل الذي نراه الان، سنجد ان روح الثورة والتحرر وحب الإستقلال ورفض الاستعمار المباشر وغير المباشر ظلت متوهجة داخل مجتمعاته. ونجحت العديد من الحركات الوطنية في الحصول على الإستقلال حتى وإن كان صوريا، ونجحت بعض الحركات التحررية في أن تثور على الاستعمار وتخرجه من اراضيها. ثم وقفت الدول العربية التي نالت إستقلالها الى جانب تلك التي كانت ماتزال تناضل من اجل ذلك الهدف. وعندما وقفت بعض الحكومات العربية الى جانب العدوان الثلاثي على مصر كانت التظاهرات تملأ الشوارع، ونجح المد الشعبي في اسقاط بعض تلك الانظمة.
ونفس الشيء حدث بعد اندلاع الثورة الجزائرية حيث وقفت الى جانبها كل جماهير الأمة ودولها المستقلة آنذاك حتى نجحت في تحقيق الاستقلال التام من الإستعمار الفرنسي. وبعد مؤتمر باندونغ (مؤتمر التضامن الأسيوي- الأفريقي 1955)، والذي كان نواة حركة عدم الإنحياز (1961) في ظل الحرب الباردة، نجح الراحل جمال عبد الناصر في قيادة الامة الى مكانة يحسب لها حساب، وتمكنت الكتلة في إجبار القوتين العالميتين على إحترام وجهة نظر أعضاء الحركة ودعمت إستقلال اغلب الدول الأسيوية والأفريقية. واصبحت بعض العواصم العربية، القاهرة بالذات، مقرا وملجأ لكل حركات التحرر الأسيوية والأفريقية.
يمكن القول ان تلك المرحلة هي التي فعّلت جرس الإنذار لدى الدول الغربية من إحتمال ان يصبح الوطن العربي قوة مؤثرة في الساحتين الإقليمية والدولية بما يمتلكه من ثروات. وليس من المبالغة القول ان من شَغّلَ هذا الجرس وابقى صوته عاليا بصورة مستمرة هو الكيان الذي خلقته الدول الغربية في فلسطين، قلب الوطن العربي. لقد شعر ذلك الكيان أن وجوده، الذي مرر بموافقة وخنوع الأنظمة العربية التي كانت ترزخ تحت الحكم الإستعماري، ومحاولات تمدده خارج المساحة التي منحت له من قبل الأمم المتحدة في قرار التقسيم عام 1947، اصبح مهددا بشكل واضح، خاصة بعد ظهور انظمة وطنية رافضة لوجوده. وزاد هذا الإحساس عندما تبنت مصر عبد الناصر، وبدعم سوري، المقاومة الفلسطينية المسلحة في غزة والضفة الغربية منذ منتصف الخمسينيات، وتبعت ذلك دولا عربية أخرى بعد نكسة 1967. من هنا جاء القرار بالعمل على وأد كل مشروع نهضوي عربي يمكن ان يقف في وجه الأطماع الصهيونية، وبدعم أمريكي –بريطاني-اوربي، وتُرجِمَ هذا القرار في حربين، فشلت الأولى (السويس والعدوان الثلاثي 1956)، ونجحت الثانية بشكل كبير (حزيران/يونيو 1967).
ان هذه المقدمة يجب ان لا تجعلنا نغفل حقيقة أن من أعان المخطط الإسرائيلي-الأمريكي-ألبريطاني على النجاح هو الأنظمة والحكومات العربية نفسها، التي على الرغم النوايا الوطنية لبعضها، إلا أنها فشلت في خلق دول مؤسسات ومجتمعات ديمقراطية تقف خلف الأنظمة وتدعمها. بل يمكن القول انها (الأنظمة) عزلت نفسها بسياساتها القمعية، التي بررتها بصورة ساذجة على انها (ضرورية لحماية الثورات والتجارب الوطنية من المؤامرات الخارجية). ولهذا حصل إنفصام ما بين الشعوب وحكامهم. وإزدادت هذه الفجوة اتساعا عندما شعرت الغالبية من المواطنين في كل الدول العربية بأنها مهمشة وليس لديها اي راي فيما يحدث، فهي تشارك في الحروب مكرهة، وتجبر على تجرع الهزائم مكرهة، وترضى بإتفاقات ليس لها فيها ولا لأجيالها القادمة أية مصلحة. كما انها في غالبيتها وجدت نفسها، ولا تزال، تعيش تحت خط الفقر، في حين أن ثرواتها تذهب الى جيوب الفاسدين والحاكمين. والفشل نفسه لحق بالقيادات الاخرى التي تمتلك الثروات الهائلة، فبدلا من تسخير هذه الثروات لبناء نهضة إقتصادية، صناعية، ثقافية، زراعية في كل الوطن العربي، وضعت كل هذه الإمكانات الهائلة في خدمة المشروع الأمريكي-الصهيوني الذي يهدف الى تفكيك الوطن العربي، معتقدة ان هذا المشروع هو الكفيل بحمايتها وإبقائها في الحكم. لقد أنفقت هذه الأطراف مئات المليارات من الدولارات لدعم الحروب الأهلية داخل الوطن العربي، وفي وقت كانت نسبة بسيطة من هذه الأموال كفيلة بإحداث نهضة إقتصادية ثقافية وإجتماعية في كل الدول العربية.
ما يحدث في منطقتنا العربية اليوم الآن هو مسار بدأ في عام 2003، ثم انتقل الى اغلب الدول العربية (تحت مسمى الربيع العربي)، ونتج عنه تدمير ليبيا وسوريا واليمن، ثم انتقل بعد طوفان الأقصى الى فلسطين، غزة على وجه الخصوص، ثم لبنان واخير وليس آخرا في سوريا، حيث استطاعت إسرائيل والولايات المتحدة من تحقيق إنتصارات سهلة لا يستحقانها. وهذا الامر شمل حتى المحور اليميني المطبع والراضي بالتوسع الإسرائيلي، الذي ارتعب مما يجري. المشكلة ان ذاكرة الناس ضيقة وضعيفة وفي بعض الأحيان معدومة. ما يحدث الآن في سوريا خاصة حدث مرتين في العراق عام 2003 وما بعدها، وفي 2014 بعد اجتياح عصابات داعش الارهابية. ونتيجة العملين كانت كارثية بكل المقاييس. ولكن هناك من لا يزال يؤيد ما تفعله امريكا وإسرائيل ويستنجد بهما ويطيعهما. وبإعتقاد مجموعة غير قليلة، والكاتب منهم، ان أساس الكارثة الحالية هو عدم تفعيل مبدأ (وحدة الساحات) بعد إنطلاق عملية طوفان الأقصى.
ربما لا توجد فائدة ترتجى من مناقشة هكذا موضوع مع الذين يحركهم التعصب الطائفي والعنصري، او تحركهم نوازع ومصالح ضيقة ومحدودة وتجارب شخصية مؤلمة (هذا إذا افترضنا حسن النية وعدم وجود إرتباطات مشبوهة)، فهؤلاء جميعا لا يستطيعون ان ينظروا إلى الأمور او مناقشتها من زاوية المصلحة الوطنية العليا.
ربما من اكثر الأدوار التي قد يصعب تفسيرها للبعض هو ذلك الذي تلعبه تركيا، ليس عمليا فقط، وانما فيما يحمله من نيات مستقبلية تضمر سوءا للامة، من بينها ان يتم الحديث في تركيا ومن قبل جهات رسمية عن (ضرورة استعادة حلب وبعدها الموصل وضمهما لتركيا)، ثم يتم تغليف ذلك بكلام معسول يتحدث عن (الحفاظ على وحدة الأراضي السورية). واليوم امتد النشاط التركي الى منطقة القرن الأفريقي حيث نجحت في تحقيق مصالحة تاريخية مهمة بين الصومال واثيوبيا، هذه المصالحة التي في محصلتها النهائية تخدم أديس أبابا وسياستها، المدفوعة إسرائيليا، في تعطيش مصر وحرمانها من نسبة كبيرة من مياه النيل مع الآثار الكبيرة الناتجة عن ذلك. بكلمة اخرى ان المخطط التدميري والتفتيتي بدأ ينتقل الى مصر. لقد جربت تركيا سابقا استراتيجية زعزعة الإستقرار في الدول العربية المجاورة، وانقلبت عليها تلك السياسة وبالا، ولكن يبدو ان ليس العرب فقط هم من يتصفون بضعف الذاكرة وعدم الاتعاظ من التجارب.
نعم ان الأمة اليوم تعيش على كف عفريت، وهي مهددة بالتفتيت اكثر مما هي مفتتة الآن، والأمر المؤلم أكثر أن دولة الإحتلال التي كانت تقف على حافة هزيمة كبرى لها ولمشروعها الإستيطاني التوسعي، تُحقق اليوم، وبدعم أمريكي وتركي، وموقف سلبي روسي وإيراني وعربي رسمي، (انتصارا) لم تكن تحلم به. ومن غير المستبعد أنه بعد وصول ترامب للحكم سيتم ليس فقط تعزيز ذلك بل وإجبار دولا عربية جديدة للقبول به، وربما يصل الى إجبار المحكمة الجنائية الدولية على سحب مذكرات إلقاء القبض بحق نتنياهو وغالآنت، وقد يمتد الأمر الى محكمة العدل الدولية ومنعها من اصدار حكما بشان الإبادة الجماعية التي يرتكبها الإحتلال في غزة.
هذه الصورة القاتمة لا يخفف منها سوى استمرار المقاومة في غزة رغم كل ما جرى ويجري، والحالة المتدنية التي سقط فيها الكيان المحتل في عيون العالم، وخاصة الغربي، وتزايد عمليات المقاطعة له واعتباره نظاما منبوذا ومارقا.
لقد عودتنا الأمة العربية ان تنجح في الأوقات الصعبة في النهوض من بين الرماد وتحقق انتصارات رغم كل النكسات، ربما يحتاج مثل هذا الأمر الآن الى فترة زمنية ليست بالقصيرة، ولكن بالنتيجة هذا ما سيحصل وعلى يد الأجيال التي لم ستنبذ الذل والتبعية وترويج الإنقسامات. والامل بذلك لا يمكن ان ينقطع مهما طال الزمن. وليس لنا سوى التأسي بما ورد في القران الكريم في غزوة الخندق عندما وصل المسلمون الى حالة غير مسبوقة من اليأس حتى نزلت الآية الكريمة: بسم الله الرحمن الرحيم “أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ”. صدق الله العظيم.