وكأنه أمرآ قد دبر في ظلام ليل بغداد ، انطلق الإعلان الرسمي لترشيح “نوري المالكي” لولاية ثالثة يوم السبت 29 ت2 لمنصب رئيس الوزراء، وقبل أن يتلاشى على نحوٍ غامض من موقع “حزب الدعوة” وكأنّه شبح مرّ ولم ترصده عدسات وسائل الاعلام ثم اختفى وتلاشى , ولكنّ صدى الاعلان للترشيح لا يزال يدوّي في دهاليز وأروقة السياسة ، مخلّفاً وراءه سحابةً سوداء من الأسئلة والتكهنات : هل كانت مجرد مناورةً سياسيةً استفزازية بارعةً أم أنه كان انزياحاً غير محسوب؟ أم هي رسالة موجهة بصورة مباشرة لمن يهمه الامر؟ هذا الإعلان قد كشف لنا بعض من بواطن الامور وكيف تدار العملية السياسية في الخفاء ، وعلى الرغم من سحبه السريع، تبين لنا بوضوح عن حرب الأعصاب المشدودة حتى الانكسار داخل تحالف “الإطار التنسيقي” وبدوره لم يكن مجرد اسم هامشي قد يُضاف إلى قائمة المرشحين المحتملين لتولي منصب رئاسة الوزراء ، بل كان مطرقةً استباقيةً للمالكي لتحطيم سندان احتكار السوداني لورقة “الفائز الأكبر” وإنها قد تكون بداية لمعركة خفية للوجود بين عقلية “الحق التاريخي” في الحكم التي يمثلها المالكي، وعقلية “شرعية الصندوق” والمقاعد النيابية التي يتشبث بها “السوداني” ولكن في خلفية هذا المشهد الظلامي ، لتطلّ لنا بأشباح الماضي بثقلها المأساوي : ذكرى سقوط الموصل، و طفحان ملفات الفساد والمشاريع الاستراتيجية الوهمية، و الجرح الذي ما يزال لم يندمل بالنسبة للتيار الصدري والمتمثل بـ “صولة الفرسان” التي شكّلت في حينها لحظة مفصلية في تاريخ العلاقة بين السلطة والميليشيات المسلحة , فكيف يجرؤ من كان حكمه مرادفاً للمأساة على التقدم للمشهد السياسي مرة أخرى؟ والجواب قد يكمن في الغطرسة السياسية ، أو في حسابات داخلية لا تضع مصالح العراق في حسبانها إطلاقاً ولكن تضع المصلحة الشخصية والغرور السياسي فوق المصلحة الوطنية , وفي خضمّ التحولات المتسارعة التي يشهدها المشهد الشيعي في العراق، يبرز اليوم وليس كما كان في الأمس “التيار الوطني الشيعي” بوصفه أحد أهم الفاعلين الساعين إلى إعادة صياغة قواعد العمل السياسي وبعيداً عن هيمنة الأحزاب التقليدية و صراعات مراكز القوى الحزبية والنفوذ الشخصي .
اليوم، ومع تصاعد الحديث عن احتمالات ولادة “صولة فرسان ثانية”، يجد التيار الوطني الشيعي نفسه أمام سؤال مصيري: هل يمثّل تجديد ولاية المالكي عقبة أمام مشروعه الإصلاحي، أم أنه مجرد محطة في مسار أوسع من إعادة تشكيل السلطة داخل المكون الشيعي؟ وما طبيعة التفاعل بين إرادة الدولة وبين إرث التجارب الأمنية السابقة؟
قد يعتبر البعض بان ورقة الترشيح لولاية ثالثة هي عملية جس نبض ومدى تقبل المجتمع وقادة الأحزاب المنافسة واختبار لردود الداخل والخارج على أحقية موضوع الترشيح ولكن مع بعض الردود التي كانت صاخبة وعنيفة والتي أحرقتها الألسن وعلّقتها في ساحات الاتهامات وذكرى للمآسي التي خلت أثناء حكمه . ولا يمكن فصل مناورة ترشيح المالكي اليوم عن إرثه الثقيل بالأمس. فالدورتان اللتان قادهما من 2006 إلى 2014 لم تكونا مجرد حقبة سياسية عابرة ، بل كانتا مصنعاً للانهيار الذي لا يزال العراق يدفع ثمنه حتى اللحظة. وإن سقوط ثلث البلاد، بين براثن تنظيم “داعش” لم يكن حدثاً عابراً، بل كان الثمرة المُرّة لسياسات الطائفية والتبعية وإقصاء الآخر التي مارستها حكوماته . اليوم وبعد إعلان الترشيح يعود للذاكرة العراقية الموجعة والمثقلة بالمآسي والآلام والجرح الذي ما يزال ينزف حول الاختفاء القسري واختطاف الشباب من بيوتهم تحت الحجج الأمنية وهذا الإرث الأمني الدامي والسياسي المعقد ليطرق باب المشهد من جديد، ليس كذكرى عابرة فجع بها العراقيون في حينها من شدة قسوتها وطائفيتها ، بل كمشروع حكمٍ جديد وان يكن غير مُعلَن. بل هو استفزاز صريح آخر مباشر ومتعمد وصريح للتيار الصدري، قد يدفع بالبلاد إلى حافة حرب أهلية لا تُحمَد عواقبها. التيار الصدري اليوم ليس كما في الأمس فلقد تحول إلى قوة شعبية وعسكرية هائلة، تمتلك جماهير مليونية غاضبة تتبع أوامر زعيمها بلا تردد وسرايا السلام، هي ليست مجرد ميليشيا، بل اشبه ما يكون الى جيش منظّم وقادر على خوض معارك الشوارع وبصورة عنيفة ومنسقة فما تزال الذاكرة الجريحة من “صولة الفرسان” ، حيث لا ينسى التيار كيف سُحِقَ بدعم أمريكي-بريطاني للمالكي . اليوم، الاحتلال غائب، والدعم الخارجي للمالكي لم يعد كما كان او انه شبه معدوم إلا من قبل بعض مراكز القوى في طهران . في هذه المعادلة الجديدة، يصبح الصراع محضاً عراقياً – داخلياً – وأكثر دموية. أي محاولة لإعادة المالكي إلى السلطة ستُفهَم على أنها إعلان حرب مفتوحة على التيار الصدري، الذي لن يتردد في استخدام كل ما يمتلكه للرد وبقوة ومن خلال مقولة مرحعية النجف ” المجرب لا يجرب مرة أخرى ”
وأن حدث وتم تنصيبه لولاية ثالثة فإن السيناريو الكارثي سوف يكون احتمالاً واقعياً ولا مفر منه وقد تبدأ بأي محاولة استفزازية أو عمل مدبر , لتقود الى مواجهات مسلحة في الشوارع، لتتصاعد بسرعة إلى اقتتال داخلي طائفي-سياسي، تُذكّي نيرانه الخلافات القديمة والتي ما تزال سخونتها تحت الرماد . إنها معركة وجود بين جيل “الدعوة التاريخية” الذي يتمسك بالسلطة وكأنها ميراث حكرا عليه لا لغيره ، وجيل “الولاءات المتحولة” الذي يمتلك ورقة التفويض الانتخابي الأكبر. هذه المعركة قد تمزق تحالف “الإطار التنسيقي” من الداخل قبل أن يبدأ في تشكيل الحكومة. والتيار الصدري، رغم غيابه الرسمي، يمتلك قنبلة موقوتة اسمها “الذاكرة الجمعية”. فذكرى “صولة الفرسان” الأولى وقمع المتظاهرين ثورة تشرين لا تزال جرحاً نازفاً. وأي محاولة لإعادة “المالكي” ستفجر غضب الشارع الصدري، ولن تكون ساحة الاحتجاج كالسابق ، بل قد تكون شرارة لمواجهة أوسع في ظل وجود “سرايا السلام” المسلحة. ولان ترشيح المالكي قد ينظر اليه في سياق هذه المرحلة الحساسة التي يمر بها العراق بعد انهيار شبه تام لمنظومة الهلال الشيعي بانه يخدم أجندات خارجية تريد إبقاء العراق ساحة صراع مستمرة. فهو تبقى شخصية مثيرة للجدل تخلق انقساماً يسهل إدارته. غياب الموقف الأمريكي الواضح ليس بريئاً، فهو قد يكون تكتيكاً لترك العراقيين ينهشون بعضهم البعض قبل التدخل في اللحظة المناسبة لفرض حلول تخدم مصالحهم. ولكن الخاسر الأكبر في الصراع حول كرسي رئاسة الوزراء سيكون العراق كوطن حاضن للجميع والمواطن وبين طموح المالكي الشخصي للسُلطة وطموح السوداني للبقاء، يضيع العراق. هذه المعركة ليست على خدمة المواطن، بل على مقعد سيُدمر البلد من أجله. الكرسي أصبح أهم من الدولة، والولاءات الخارجية أصبحت أقوى من صوت الشعب الجائع.
السؤال الحقيقي الذي لا يزال لم يتردد في أواسط الإعلام العراقي : ليس إن كان التيار الصدري سيرد أو لم يرد على الترشيح لولاية ثالثة ، بل كيف سيكون شكل هذا الرد ؟ وهل ستبقى هناك دولة قائمة بعد رده ؟ أم أن العراق سيدفع ثمن “الولاية الثالثة” بحرب أهلية قد تلوح في الافق ويكون الخاسر الوحيد فيها هو الشعب والوطن وتجعل من هذه التخوفات وفي هذه المرحلة الراهنة وبعد ما أفرزته نتائج الانتخابات من مدى مقبولية الأحزاب وقادتها السياسيين لدى الشعب العراقي تظل واحدة من أكثر اللحظات الحرجة والحساسة في تاريخ القوى الشيعية بعد عام 2003، و تستدعي من الجميع قراءة متأنية وهادئة وواقعية ومآلاتها المحتملة لمستقبل العراق في ظل تغير تام لخريطة الشرق الأوسط وبعد زوال الهلال الشيعي وتدمير ما تبقى من محور “الممانعة والمقاومة ” ومع التلويح الإسرائيلي–الأميركي المشترك بتوجيه ضربة محتملة لإيران، وإلى أن تضع الحرب أوزارها، سيبقى العراق يرزح تحت جروحه المفتوحة التي لم تتيح له بعد فرصة الالتئام .
sabahalbaghdadi@gmail.com