الوثيقة | مشاهدة الموضوع - القنبلة السكانية الآتية: زيادة المواليد أم زيادة نسبة كبار السن؟
تغيير حجم الخط     

القنبلة السكانية الآتية: زيادة المواليد أم زيادة نسبة كبار السن؟

مشاركة » الأحد سبتمبر 08, 2024 5:10 am

2.jpg
 
لا يدرك قادة الدول النامية الذين يعتبرون أن المواليد الجدد نقمة يجب الحد منها، أن السياسات السكانية المالتوسية سوف تؤدي تدريجيا إلى إحداث تشوهات في الهيكل السكاني بزيادة نسبة كبار السن غير المشتغلين إلى السكان في سن العمل، ما يؤدي إلى خلل في موازنات تلك الدول بين متحصلات المعاشات والتأمينات الاجتماعية للعاملين من ناحية ومدفوعات المعاشات والتأمينات للمتقاعدين، وهو ما يتم التعبير عنه اقتصاديا بارتفاع نسبة الإعالة. هذا ينعكس على المالية العامة للدولة بزيادة المصروفات بنسبة أكبر من زيادة الإيرادات، ومن ثم حدوث خلل في الميزانية. وتمارس بعض الحكومات سياسة نشطة متحيزة ضد المواليد الجدد، خصوصا في الدول العربية الكثيفة السكان مثل مصر. هذه السياسة تسهم في تشويه الهرم السكاني، وتأتي بالنتائج السلبية التي أشرنا إليها. لكن هذه السياسة المتحيزة ضد المواليد الجدد ليست وحدها المسؤولة عن ارتفاع نسبة كبار السن إلى مجموع السكان؛ فهناك عوامل ديموغرافية واقتصادية واجتماعية تشترك مع تلك السياسة الرسمية في تحقيق ذلك التشوه في الهيكل السكاني منها تأخير سن الزواج، وتأخير الحمل، وانخفاض معدل الخصوبة لأسباب صحية، وارتفاع معدل الوفيات بين المواليد الجدد. ويترك هذا التحيز ضد المواليد للجدد نتائجه المدمرة عبر عقود أو خلال جيل، وليس في عام أو عامين. ومن هنا تنبع خطورة سياسات الحكومات والتوجهات الاجتماعية، لأنها تنتج قنبلة خطيرة تكبر وتتراكم قدرتها التدميرية عبر الزمن.
كانت المشكلة السكانية في نظر عالم الاقتصاد البريطاني توماس مالتوس ( 1766 – 1834) هي الخلل الحاد في العلاقة بين معدل زيادة السكان، ومعدل زيادة الموارد الغذائية، الأول يزيد على شكل متوالية هندسية والثاني على شكل متوالية عددية. وأن معدل نمو الموارد الغذائية يفرض قيدا جوهريا على معدل نمو السكان. وقال إن الطبيعة تعاقب البشر عندما يتجاوز نموهم معدل نمو الموارد الغذائية المتاحة، عن طريق زيادة حدة الفقر وانتشار المجاعات والأوبئة والأمراض، أو «العوامل الوقائية» التي تضمن عودة التوازن بين السكان والموارد الغذائية. وكان العلاج «المالتوسي» في السياسات السكانية على مستوى العالم، خصوصا في الخمسينات والستينات من القرن الماضي يعتمد جوهريا على الحد من المواليد، وهي سياسات كان يتبناها ويرعاها البنك الدولي تحت قيادة روبرت مكنمارا. وخلال تلك الفترة انتشر ما يطلق عليه «طب تنظيم الأسرة» بهدف تقليل معدل زيادة السكان.
وكانت الصين هي المثال الأبرز في العالم لتطبيق قواعد صارمة في طب تنظيم الأسرة لتخفيض معدل الزيادة السكانية. لكن هذه السياسة أدت إلى تشوهات في التوازن السكاني، فمن ناحية حدث اختلال للتوازن الطبيعي بين الذكور والإناث، ومن ناحية ثانية حدث اختلال في الهرم السكاني الطبيعي، بزيادة نسبة كبار السن. وهو ما أدى إلى ارتفاع «معدل الإعالة» وهو المعدل الذي يقيس عدد الأفراد في سن العمل مقابل عدد الأفراد كبار السن الذين تخطوا مرحلة القدرة على العمل، و أحيلوا إلى التقاعد. هذا الخلل أدى إلى تشوهات حادة في هيكل القوى العاملة، وفي هيكل الطلب والاستهلاك المحلي، ما أدى إلى الرجوع عن تلك السياسة في السنوات الأخيرة. وبعد أن كانت الصين تفرض عقوبات على من ينتهك سياسة الإنجاب الرسمية أصبحت الآن تقدم الحوافز لتشجيع المواطنين على زيادة الإنجاب، بما في ذلك تقديم حوافز ضريبية ومكافآت، وتسهيلات للحمل وعلاج العقم ورعاية الاطفال للمرأة العاملة. وقد أصبحت السياسة السكانية الجديدة في الصين معلما رئيسيا من معالم التغيير من أجل حفز معدل النمو الاقتصادي، وتجنب الوقوع في فخ الركود الناتج عن تراجع الطلب بشكل عام.
لكن المشكلة السكانية في العالم حاليا تجاوزت إلى حد كبير الصيغة المالتوسية من حيث الأسباب والنتائج وطرق العلاج. على سبيل المثال فإن المشكلة السكانية التي تواجهها دول الاتحاد الأوروبي ليست من النوع المالتوسي، لأن وفرة الإنتاج الغذائي في تلك الدول لا تصطدم بمعدل مرتفع لنمو السكان. بل إن الواقع هو العكس تماما، حيث لا تتوفر القوة العاملة الكافية لمقابلة احتياجات الإنتاج، خصوصا في الدول الأوروبية الأكثر تقدما. وأصبحت دول مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا تحتاج إلى استيراد العمالة الزراعية موسميا من دول أوروبية أقل تقدما مثل رومانيا وألبانيا. كذلك فإن نقص الغذاء في دول القرن الأفريقي مثلا الذي يتسبب في مجاعات واسعة النطاق، ليس ناتجا عن زيادة الاستهلاك بمعدلات تتجاوز معدلات القدرة على زيادة الإنتاج، وإنما يعود لأسباب بيئية، أهمها الجفاف والسيول والتغيرات المناخية الحادة، التي أدت إلى انخفاض إنتاجية الأرض والموارد المائية. كذلك فإن التفاوت الحاد في توزيع الثروة، أدى إلى أن تعاني نسبة متزايدة من السكان في العالم العربي من أمراض الجوع وسوء التغذية بين الفقراء وغير القادرين في دول العسر، على التوازي مع انتشار أنواع أخرى من الأمراض ترتبط بالإفراط في الأكل والشرب مثل أمراض السمنة والسكري والضغط، في بلدان مثل بلدان الخليج الغنية، أو الطبقات الثرية في العالم العربي بشكل عام.
وتتوقع دراسات اللجنة الاقتصادية لغرب آسيا ودراسات الأمم المتحدة المتعلقة بالمشكلات السكانية الإقليمية أن تواجه الدول العربية قنبلة سكانية من نوع يختلف تماما عما واجهته في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. وتشير توقعات النمو السكاني في العالم العربي إلى أن الدول العربية ستشهد عملية شيخوخة متسارعة في الهيكل السكاني خلال السنوات الثلاثين القادمة. ووفقا لتلك التوقعات فإن نسبة السكان الذين تبلغ أعمارهم 60 عاما فما فوق، التي تبلغ حاليا 7 في المئة ستزيد بمعدل نمو سنوي قدره 3.8 في المئة، وهو معدل نمو يتجاوز ضعف معدل نمو إجمالي السكان الذي يبلغ 1.4 في المئة، لتتضاعف نسبتهم في عام 2050 إلى 15 في المئة، ويقفز عددهم الى اكثر من 100 مليون شخص.

الشيخوخة
وتراجع الإنتاجية

يربط خبراء صندوق النقد الدولي بين تناقص معدل المواليد الجدد ومعدل الوفيات بين كبار السن، وبين ظاهرة تراجع معدلات نمو الإنتاجية في العالم. كما توصلوا إلى استنتاج كبير مفاده أن تحقيق النمو المستدام يتوقف على ضرورة زيادة الإنتاجية مع زيادة تحول الهرم السكاني نحو الشيخوخة وارتفاع معدل الإعالة. وقالت الدكتورة غيتا بهات النائب الأول لمدير الصندوق في مقدمة العدد الأخير من مجلة «التمويل والتنمية» أن تراجع الإنتاجية يؤدي إلى تآكل مستويات المعيشة بين السكان ككل، وهو ما يعرض الاستقرار المالي والاجتماعي للخطر. ونقلت عن عالم الاقتصاد الأمريكي بول كروغمان (الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد عام 2008) في كتابه الصادر عام 1990 بعنوان «عصر التوقعات المتناقصة» أن «الإنتاجية ليست كل شيء، ولكن على المدى الطويل هي كل شيء تقريبا. فالإنتاجية هي أساس الازدهار، وهي الطريقة الوحيدة التي يمكن لبلد ما بواسطتها رفع مستوى معيشته بشكل مستدام وإنتاج المزيد من السلع والخدمات بالموارد الحالية أو أقل». وأضاف كروغمان أنه لا يمكن القيام بذلك دون تحسين الإنتاجية. ومع ذلك، فإن كل العوامل الأخرى المتعلقة بالإنتاجية معقدة ومن الصعب تفسيرها وقياسها. ومع ذلك فإنه من الضروري زيادة إنتاجية رأس المال والعمل، حتى تلعب دورا أكبر في دفع النمو المستدام مع تقدم مجتمعاتنا في العمر. ولكن لا يوجد توافق في الآراء حول كيفية وقف التباطؤ الواسع في نمو الإنتاجية، الذي شوهد في جميع البلدان تقريبا على مدى السنوات الـ 20 الماضية.
وما يثير القلق بشكل خاص هو النمو البطيء لما يسميه الاقتصاديون الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج، وهي معادلة اقتصادية لقياس مدى كفاءة الشركات في تحويل رأس المال والعمالة إلى ناتج، طورها عالم الاقتصاد الأمريكي روبرت سولو (نوبل في الاقتصاد عام 1987) وخلص منها إلى أن المحرك الرئيسي المسؤول عن زيادة الإنتاجية هو المتغير المرتبط بالابتكار والتكنولوجيا. ويظهر تحليل صندوق النقد الدولي أن تباطؤ نمو الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج مسؤول عن أكثر من نصف التباطؤ في النمو الاقتصادي العالمي منذ الأزمة المالية العالمية (2008). وعلى هذا فإن خبراء الصندوق يعتقدون أن عقدا آخر من ضعف نمو الإنتاجية يمكن أن يؤدي إلى تآكل مستويات المعيشة بشكل خطير، ويهدد الاستقرار المالي والاجتماعي.

الديناميكية الاقتصادية/الديموغرافية

ويضم العدد الجديد من مجلة «التمويل والتنمية» إسهامات نظرية وتطبيقية لعدد من كبار الباحثين، تهدف للمساعدة في تفسير ظاهرة ضعف معدل نمو الإنتاجية، وطرق مواجهتها، وكيفية إطلاق شرارة الديناميكية الاقتصادية. وفي البداية يمهد الخبير الاقتصادي في جامعة ييل مايكل بيترز المسرح من خلال الخوض في أسباب تباطؤ نمو الإنتاجية في الولايات المتحدة. يستنتج منه أن تراجع الديناميكية في أكبر اقتصاد في العالم يمكن أن يتردد صداه في جميع أنحاء العالم. ويخلص إلى أن زيادة الهجرة لتعويض نقص القوى العاملة، والإلتزام بقواعد المنافسة لتشجيع الابتكار من قبل الشركات الأصغر حجما، والأشخاص الأصغر سنا يمكن أن تكون جزءا من الحل. هذا يتطلب سياسة سكانية جريئة تتناقض تماما مع تلك التي تتبناها القوى المحافظة اليمينية التي يمثلها المرشح الرئاسي دونالد ترامب. أيضا فإنه يمكن لهذه الشركات الصغيرة أن تحقق زيادة في الإنتاجية تفوق الشركات الضخمة، كما كتب أوفوك أكسيجيت من جامعة شيكاغو، الذي يستكشف لماذا لا تؤدي زيادة الإنفاق الأمريكي على البحث والتطوير بالضرورة إلى تعزيز الإنتاجية. ويبين كيف أن الشركات الصغيرة أكثر ابتكارا مقارنة بحجمها، مما يشير إلى أنها استخدامها لموارد البحث والتطوير هو أكثر كفاءة. كما بين مقال أكسيجيت أنه مع نمو الشركات الضخمة وهيمنتها على الأسواق، فإنها غالبا ما تتحول إلى حماية وضعها في السوق، بدلا من تعزيز المنافسة والابتكار.
ولكن في حين أن الابتكار هو بالضبط ما نحتاجه لإحياء نمو الإنتاجية، فإنه ليس كافيا في حد ذاته. وتوفر التقنيات الجديدة والتحول الرقمي، ولا سيما الذكاء الاصطناعي، القدرة على دعم تحقيق زيادة كبيرة في الإنتاجية تدريجيا، كما كتب الحائز على جائزة نوبل مايكل سبنس. وقد أشار سبنس بوضوح إلى أنه لكي يحقق الذكاء الاصطناعي إمكاناته الاقتصادية الكاملة، فإنه يجب أن يكون في متناول جميع قطاعات الاقتصاد، والشركات الكبيرة والصغيرة.
كذلك فإن السياسات الصناعية مهمة أيضا. وهنا يدفع الخبراء بضرورة اتخاذ تدابير تشجع على إعادة تخصيص الموارد بشكل أكثر فعالية بعيدا عن الشركات منخفضة الإنتاجية، وأن يتم دعم الشركات الصغيرة والشركات الناشئة، وليس فقط الشركات الكبيرة القائمة. ويمكن أن تشمل حوافز الابتكار وزيادة الإنتاجية تدابير متنوعة مثل الإعفاءات الضريبية الموجهة للابتكار في المراحل المبكرة، والمنح التشجيعية للبحوث والتطوير، وإعادة تدريب القوى العاملة، والسياسات التي تشجع المنافسة. ويضاف إلى ذلك ضرورة التقليل من الحواجز التي تحول دون دخول لاعبين جدد. هذه الحواجز تتمثل في إجراءات حمائية أو انتهاكات احتكارية في السوق تقوم بها الشركات الكبيرة دفاعا عن مصالحها.
إن فهم نمو الإنتاجية بشكل كامل أمر بالغ الأهمية لأنه يلعب دورا كبيرا في النمو الاقتصادي – والذي، كما كتب دانيال ساسكيند من «كينغز كوليدج» لندن، يتطلب أيضا نهجا متجددا للمساعدة في تحسين حياة الناس. في نهاية المطاف، كما كتب إدموند فيلبس الحائز على جائزة نوبل (2006) يجب أن يسمح المجتمع المنتج للناس بالاستمتاع «بالازدهار الجماعي» من القاعدة الشعبية إلى الأعلى. إن ما كتبه فيلبس في هذا السياق يعيد غايات النمو الاقتصادي إلى أصلها الحقيقي، مبحرا بالجدل حول هذا الموضوع بعيدا عن استخدام مقاييس كمية ضيقة، مثل الدخل النقدي للفرد أو الناتج المحلي الإجمالي، حيث ثبت أن هذه المقاييس، حتى في حال تحقيقها، لا تضمن تحقيق الرفاهية والازدهار للغالبية العظمى من السكان. ومع زيادة نسبة كبار السن في الهرم السكاني، فإننا نضيف أن زيادة الإنتاجية تتطلب ابتكار وسائل جديدة للدمج الاختياري لكبار السن في التجديد التكنولوجي، على التوازي مع زيادة الاهتمام بالرعاية الصحية والرفاهية الاجتماعية. كما يتطلب أيضا التخلي عن سياسات التقييد الأعمى للهجرة، وضرورة فتح الأبواب لغرض إحداث توازن في الهيكل السكاني للدول الصناعية المتقدمة على أسس العدالة والمساواة وحقوق المواطنة. أما في الدول النامية التي يعتقد قادتها أن زيادة المواليد نقمة بسبب فشلهم في تخصيص الموارد الكافية للتنمية البشرية، فإن انقلاب الهرم السكاني خلال أقل من جيل، سيزيد من حدة الأزمات الاقتصادية وضعف معدلات النمو.
العناوين الاكثر قراءة









 

العودة إلى المقالات