تعتبر سوريا من بين أكثر الدول في الشرق الأوسط، التي شهدت ولا تزال اضطرابات أمنية واسعة النطاق في السنوات الأخيرة. هذه الاضطرابات وما نتج عنها من تأثيرات متشعبة على مختلف جوانب الحياة في البلاد، أدت إلى حالة من الفوضى وتحميل الشعب السوري ما لا طاقة به من أعباء الحياة، في حين تحولت الجغرافية السورية إلى ساحة صراع محلية ودولية، تنشط فيها أجهزة استخبارات لعدة دول، وتزداد فيها عمليات الاستهداف وتنشط سياسة الاغتيالات لعدة اعتبارات من عسكرية وسياسية إلى وقائية واقتصادية وصولا إلى الاغتيالات التي باتت قانونا يتم اعتماده لتصفية حسابات ما بين الأطراف الفاعلة محليا.
الاغتيالات في محافظة درعا
في الجنوب السوري، وفي محافظة درعا، مهد الثورة في البلاد ربيع عام 2011 شهدت منذ مطلع عام 2024 أرقاما مرعبة لعمليات الاغتيال التي طالت عدة جهات والعديد من الشخصيات والقيادات وصولا إلى عمليات استهداف طالت رجالات الأطراف الدولية النشطة في سوريا، وليس انتهاء بتصفية الحسابات الداخلية ما بين المعارضة السورية والنظام الحاكم في دمشق.
وفي إحصائية موثقة حصلت عليها صحيفة «القدس العربي» فقد شهدت محافظة درعا في الجنوب السوري منذ العام الحالي 249 عملية اغتيال واستهداف طالت في معظمها شخصيات متعاونة مع النظام السوري، وقيادات عسكرية وأمنية في جيشه، بالإضافة إلى قيادات في الميليشيات المحلية أو الخارجية الداعمة للأسد والعاملة في المنطقة، كما توسعت عمليات الاستهداف والاغتيال لتطال عددا من تجار المخدرات والعاملين تحت ظلاله والناشطين في عمليات التهريب، فيما شهد الجنوب السوري أعمال تصفية بحق قيادات سابقة في المعارضة السورية المسلحة ممن رفضوا الانخراط تحت جيش النظام وأجهزته الأمنية أو ميليشياته بعد عمليات التسوية معه، فيما استهدفت بعض العمليات عناصر وقيادات من تنظيم الدولة في درعا.
عمليات الاغتيال الـ 249 أدت وفق ما أكده أيمن أبو نقطة، المتحدث باسم تجمع أحرار حوران لـ «القدس العربي» إلى مقتل 201 شخص، من كافة الأطراف المتصارعة، ووفق المتحدث، فإن نسبة ملفتة من عمليات الاغتيال تديرها استخبارات النظام السوري، لتصفية القيادات أو الشخصيات التي تقف حجر عثرة أمام تمدد المشروع الإيراني في المنطقة، وتقوم ذات الجهة بتنشيط عمليات التصفية ضد قيادات وعناصر سابقة في المعارضة السورية المسلحة، ممن رفضوا التبعية لأجهزة النظام العسكرية والأمنية، والتي تعارض مشاريعه في درعا، لذا تلجأ مخابرات الأسد إلى التصفية البدنية بهدف تكميم الأفواه بالرصاص وفق عمليات اغتيال منظمة. كما تنشط إيران مع النظام السوري وكذلك حزب الله اللبناني في تجنيد خلايا محلية للقيام بتصفية واغتيال عناصر فعالة ميدانيا من المعارضة السورية المسلحة، ممن يقومون بمهاجمة مواقع عسكرية للأسد أو الميليشيات في المحافظة.
ومنذ عقد اتفاقية التسوية في تموز/يوليو 2018 جنّد نظام الأسد العديد من المجموعات المحلية من أبناء محافظة درعا وسلّمها السلاح والبطاقات الأمنية بهدف القيام بأعمال أمنية لاغتيال القياديين والعناصر السابقين في فصائل الثوار، وراح ضحية ذلك العشرات من أبناء المنطقة الذين فضلوا البقاء في المنطقة وعدم الانضمام لقوات النظام عقب التسوية. وفق ما قاله المتحدث باسم تجمع أحرار حوران لـ «القدس العربي».
تصفيات وبقايا دولة
أدت عمليات الاغتيال في محافظة درعا جنوب سوريا، إلى خلق حالة من الفوضى الأمنية وعدم الاستقرار، هذه الحوادث تتسبب في خسائر بالأرواح وتزيد من معاناة المدنيين وتضرب الاستقرار، نتيجة لغياب حل سياسي شامل في البلاد، والذي يعد المنفذ الوحيد لإنقاذ ما تبقى من البلاد، ويعيد تشكيل الحالة الأمنية وينعش الاستقرار ويحد من تجارة المخدرات وتهريبها نحو العالم عبر ضبط الحدود.
وحتى ذلك الموعد، لا تبدو التهدئة قريبة في سوريا ككل، وفي درعا التي تحولت لساحة صراع وتصفية حسابات داخلية وخارجية، ولعل من أبرز المناصب التي طالتها عمليات الاغتيال التي شهدتها المحافظة منذ بدء عام 2024 هي: اغتيال مجهول لمحمد عباس، وهو متطوع في قسم الدراسات الأمنية التابعة لمخابرات النظام الجوية، فيما قُتل ضابط برتبة مقدم وهو عبد المجيد حمود، الذي كان يشغل منصبا أمنيا في مكتب أمن الفرقة الرابعة، كما تمت تصفية مطيع المسالمة، الذي كان يتزعم مجموعة محلية مدعومة من الفرقة الرابعة على أيدي مجهولين.
بالإضافة إلى قيادات وعناصر كثيرة كانت تنشط في إنتاج المخدرات وعمليات التهريب، كما طالت عمليات الاغتيال النساء، إذ وثق تجمع أحرار حوران العديد من عمليات التصفية المجهولة بحق سيدات بعضها تم بطرق قاسية للغاية.
وعمليات الاغتيال والتصفيات التي يشهدها الجنوب السوري، يمكن ردها إلى العديد من الأسباب، لعل من أهمها:
غياب الحل السياسي لسنوات عدة، إذ أدت الحرب إلى تفكك الدولة السورية التي كانت تعاني من تسلط الحزب الواحد وغياب دولة القانون، فيما نال العقد الماضي من مؤسسات الدولة، وخلق فراغات أمنية سنحت للجهات الفاعلة والقائمة على إنتاج المخدرات حرية الحركة، تحت أكناف النظام السوري.
فيما أدى الفقر وكذلك البطالة، وما نتج عنهما من أزمات اقتصادية خانقة جراء الحرب إلى انخراط العديد من السوريين بتجارة الكبتاغون وتهريبها لكسب الأموال تحت أجنحة الجهات العسكرية النشطة وعلى رأسها النظام السوري.
في حين كان ولا يزال النظام السوري، أحد أبرز وأشهر الجهات المتهمة بتجارة المخدرات وتهريبها، وفق العديد من التقارير الحقوقية العالمية والمحلية.
انتقام مغلف بـ«الاغتيالات»
إن تَتَبع الاغتيالات ومنفذيها والأشخاص المستهدفين، يشير على استمرار عمل الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السوري، وخاصة الأمن العسكري على تنفيذها من خلال بناء شبكة من المجموعات المحلية من أبناء محافظة درعا، وترتبط تلك الشبكات مع مديريها في الأمن العسكري، الذين يقومون بتوجيههم بعمل استفزازات ضد من يكون الهدف من أبناء هذه البلدة أو تلك، وبالتالي فإن الخسائر التي تقع من الطرفين سواء عملاء الأمن العسكري أو أبناء البلدة هي من أبناء حوران، وفق ما قاله الباحث في مركز جسور للدراسات رشيد حوراني لـ«القدس العربي».
ويهدف النظام السوري من استمرار الاغتيالات التي تديرها أجهزته الأمنية إلى الانتقام من أبناء المدينة التي خرجت ضده، ولم يستطع بعد التسوية برعاية روسية منتصف العام 2018 على إعادة سيطرته عليها، وبقيت فيها كافة مظاهر المعارضة والانتماء للثورة.
ترهيب الناس
الشخصيات التي يتم اغتيالها أو يتم اختطافها تنقسم إلى نوعين الأول هي شخصيات مدنية ولا علاقة لها بأي جهة، ويتم اغتيالها أو اختطافها بهدف ترهيب الناس والسكان وكسب ولائهم بالقوة وصولا إلى تعاونهم مع النظام كمخبرين، والنوع الثاني هم من المعارضين الذين قد لا تكون لهم نشاطات، فمثلا الاشتباكات التي اندلعت خلال الشهر الجاري بين مجموعة تتبع للواء الثامن في منطقة اللجاة، ومجموعة المواج التي تتبع للأمن العسكري، هي اشتباكات موجهة من الأمن العسكري الذي يتبع للنظام، ويعمل من خلالها على الانتقام من اللواء الثامن واضعافه بتوريطه بخوض معارك مع أطراف محلية من درعا بسبب سياسة اللواء الثامن غير المنسجمة مع ما يطلبه النظام منه، فمثلا رفض إرسال عناصره لأوكرانيا، ورفض أيضا إرسال عناصره لقتال داعش إلى جانب قوات النظام، وفق ذات المصدر.
رسائل مختومة بالدم
تحمل عمليات الاغتيال والتصفيات التي يشهدها الجنوب السوري، العديد من الرسائل، خاصة إن كانت عمليات الاغتيال تطال معارضين أو قياديين سابقين، فحواها وفق ما قاله الباحث حوراني لـ «القدس العربي» طلب غير مباشر من قبل النظام، أن تراجع تلك الشخصيات مواقفها وتعمل على التعاون مع قوات النظام وأجهزته الأمنية، فالنظام لا يريد منها الحياد، بل يريد تجنيدها لصالحه، والاستفادة مما تمتلكه من معلومات وخطط ومعرفة بطريقة عمل وتفكير الجهة التي كانت تنتمي إليها وتعارض.
كما تتعاون ميليشيا حزب الله والميليشيات الإيرانية في تنفيذ تلك الاغتيالات، ومن خلال السياسة الروسية التي تعمل على دمج استخدام أساليب القوة الناعمة والخشنة في معالجة الوضع السوري «تنفيذ الحملات العسكرية للوصول بالمعارضين إلى التسويات، وقبول من تسوى أوضاعهم».
أما أن تقف جهات مثل الأردن أو إسرائيل وراء الاغتيالات فمن المستبعد ذلك، نظرا لسياسة الأردن المنفتحة على النظام، وإسرائيل حذرت ضباطا بأسمائهم بمنشورات ورقية رمتها في المنطقة الجنوبية إن استمروا في التعامل مع حزب الله، ولم تأت على ذكر أي شخص من قادة المعارضة أو السكان المحليين.
كما تطورت الأحداث في الجنوب السوري عموما، فبعد تنفيذ أهالي السويداء منذ العام الماضي، وحتى الآن عدة عمليات احتجاز لعناصر قوات النظام، طوّر المعارضون أساليب عملهم ضد النظام في درعا، وبدأوا باحتجاز عناصر لقوات النظام وأجهزته الأمنية، أو محاصرة مراكز أمنية له في درعا وبلداتها، لإجباره على إنهاء اعتقال أبناء من المدينة، وتكررت هذه الحالات في درعا، وأكدت على سقوط هيبة النظام بشكل أكبر في مناطق يسيطر عليها صوريا.
أما الاغتيالات التي تطال رجال المخدرات فهي وفق الحوراني من تنفيذ قوات النظام، لأن هؤلاء هم من رجالاته، وتصفيتهم تجري حسب متطلبات المرحلة، بمثابة رسالة للأطراف العربية وخاصة الأردن ودول الخليج التي تعلمهم من خلال أجهزتها الأمنية، أما تصفية رجال الميليشيات الإيرانية فيقوم بها المعارضون من أبناء المدينة لأنهم أيضا طوروا أساليب عملهم فيما بين البلدات والقرى التي ينتشرون فيها لتتبع هؤلاء الشخصيات وتصفيتها.
وفيما يتعلق باغتيال الشخصيات المعارضة يقف وراءها نظام الأسد قولا واحدا، فاغتيال قائد فصيل فرسان الحق مؤخرا في فنزويلا معاذ نصار يقف وراءه النظام لأسباب متعددة أهمها علاقة النظام الممتازة مع فنزويلا. وسبق أن اغتال النظام أدهم الكراد، كما لا يوفر النظام تصفية القادة المعارضين الذين انضموا لأجهزته الأمنية.
الاغتيالات… فاتورة الفوضى
عمليات الاغتيال في الجنوب السوري ليست وليدة الفترة الزمنية لسيطرة النظام السوري على المنطقة، وهي أمر متلازم مع أي حرب أو فوضى في أي مكان في العالم.
ولكن تصاعد عمليات الاغتيال منذ العام 2018 وحتى اليوم هو نتيجة منطقية لحالة الفوضى التي تعيشها المنطقة الجنوبية بسبب عدم وجود جهة عسكرية وسياسية تتمتع بالسيطرة المطلقة تنفيذياً.
كما يمكننا تصنيف عمليات الاغتيال إلى ثلاثة أنواع رئيسية، وفق ما قاله الإعلامي المطلع على أحوال الجنوب السوري عبد الحي الأحمد لـ «القدس العربي».
الأولى: هي بين المجموعات المنتمية للأفرع الأمنية والميليشيات الرديفة ضد بعضها البعض وضد خصوم آخرين كالفصائل المحلية والفصائل الجهادية، وهو ما يغذيه النظام الحاكم وحلفائه سواء إيران أو حزب الله اللبناني بإشغال أبناء المنطقة بأنفسهم مما يبعد عناصرهم وضباطهم من خارج محافظات الجنوب عن دائرة الاستهداف المستمرة، مع العلم بأن ذلك لم يبعد عشرات، بل مئات الضباط والعناصر عن وقوعهم كقتلى على مدار السنوات السابقة، وهو ما نسميه «إدارة الفوضى».
حيث تسببت عمليات التجنيد بوضع المجندين تحت دائرة الاستهداف من قبل عدة أطراف، كما أسهم عكسياً بتجنيد مجموعات خاصة للقيام بعمليات الاغتيال لصالح إيران أو حزب الله أو الأفرع الأمنية ضد العشرات من معارضي النظام السوري وحلفائه.
الثانية: هي الخلافات الدائرة بين شبكات تهريب المخدرات وعصابات الخطف والميليشيات التي تحاول توسيع دائرة نفوذها من جهة، والخلافات المالية والأمنية من جهة أخرى.
كما يتبع النظام السوري سياسة توصف بـ«المرعبة» تجاه محافظة درعا، بعد أن حولها إلى مستنقع لإنتاج الكبتاغون وتعبيد طرق التهريب نحو الدول العربية والغربية. ووفق تجمع أحرار حوران فإن عدد مصانع الكبتاغون في الجنوب السوري يتراوح بين 8 و10 مصانع آلية ونصف آلية بقدرة إنتاجية قد تصل إلى أكثر من 10 مليون حبة شهرياً.
وحسب التجمع، من المتوقع زيادة أعداد معامل الكبتاغون في المنطقة الجنوبية درعا، القنيطرة، السويداء، لتخفيف أعباء النقل والشحن وذلك لقرب هذه المناطق من الحدود مع الأردن والتي باتت تعتبر اليوم النافذة الأولى لتهريب المخدرات إلى دول الخليج.
كما تتزايد نسب المتعاطين محلياً بشكل يومي وكذلك أعداد العاملين في التهريب خاصة في المناطق القريبة من الحدود، والتي باتت اليوم مراكز لتخزين المخدرات وتهريبها.
الثالثة: فهي الخلافات المدنية والعشائرية الناجمة عن عمليات الثأر والتي تغذيها حالة الفقر والجهل وعدم وجود سلطة تشريعية وقضائية تأخذ حقوق الضحايا بشكل منصف، حسب ما قاله الأحمد.
فعلى الرغم من مضي أكثر من ستة أعوام على مسار «المصالحة» في درعا، لم تنتج اتفاقيات التسوية التي فرضتها روسيا والنظام حلاً مستداماً في المحافظة، مثلما أنها لم تنتج نموذجاً مستقراً في مناطق التسوية الأخرى في ريف دمشق وريفي حمص وحماة، وفق ورقة بحثية لمركز عمران للدراسات في عام 2022.
إنما كانت بمجملها عبارة عن مسارات متعثرة لفرض حلول جزئية بهدف تجاوز الحل السياسي الشامل لمعالجة جذر الأزمة السياسية، مقدمةً مؤشرات واضحة على عدم نجاعة هذا النموذج الذي يتسم بانعدام الاستقرار الأمني، القابل للاستمرار في ظل أوضاع اقتصادية مزرية تزيد من وطأتها