منذ 2003 وأنا أصر على توصيف العلاقة الأمريكية الإيرانية في العراق بأنها «لعبة مزدوجة» تمارسها الدولتان، مع بعض المتغيرات التي أربكت أحيانا هذه اللعبة، لكنها لم تنهها!
مرر الكونغرس الأمريكي سنة 1998، «قانون تحرير العراق» بهدف تغيير النظام «والتشجيع على ظهور حكومة ديمقراطية لتحل محل هذا النظام». وعلى رأس من تعاون مع الاحتلال من أجل هذا الهدف، المجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي تشكل بأمر من آية الله الخميني في إيران عام 1982 لجمع المعارضة الشيعية العراقية تحت مظلة واحدة، وكان يضم جناحا عسكريا هو «فيلق بدر» الذي كان جزءا من الحرس الثوري الإيراني. ولم تلتفت الولايات المتحدة التي كان يصفها الخميني بالشيطان الأكبر، ولا إيران، إلى حجم المفارقة في هذا التعاون الذي وصل إلى تمويل المجلس بأموال أمريكية بموجب قرارين أصدرهما الرئيسان الأمريكيان بيل كلينتون وجورج بوش!
بعد احتلال العراق، اقتنع الأمريكيون بأن معظم القوة الشيعية المتعاونة معهم، تمتلك علاقات تاريخية مع إيران، بما فيهم المجموعات الليبرالية المفترضة، وأنهم مضطرون للقبول بها، لاسيما أن المقاومة السنية كانت قد بدأت بالتصاعد. واستسلم الأمريكيون للّعبة المزدوجة التي كانت تمارسها إيران نفسها في العراق، من خلال دفع الجماعات الرئيسية المرتبطة بها للتعاون مع سلطة الاحتلال في إطار مجلس الحكم، او في إطار الحكومات المتتالية، للهيمنة على الدولة، وفي الوقت نفسه دعم جماعات أخرى مرتبطة بها عضويا، أو براغماتيا، لمواجهة الأمريكيين والبريطانيين عسكريا!
وكانت اللحظة الأكثر رمزية في هذه اللعبة، هي تعاونهما لضمان الولاية الثانية لرئيس مجلس الوزراء نوري المالكي عام 2010.
بعد دخول تنظيم الدولة إلى المشهد، وعودة القوات الأمريكية إلى العراق في إطار «التحالف الدولي ضد داعش» عاد الطرفان إلى ممارسة لعبتهما تلك، وإن كانت واشنطن مصرة على إبعاد إيران عن هذا التحالف شكليا، لكنها قبلت بدور إيراني فاعل، وكانت تراقب الميليشيات التابعة لها وهي تستخدم الأسلحة الأمريكية، وتتحول إلى دولة موازية، ولم تحرك ساكنا، بل إنهم وفروا في بعض المعارك الغطاء الجوي لتلك الميليشيات، وتغافلوا عن الانتهاكات المنهجية التي كانت ترتكبها!
بالمقابل لم تطلق هذه الميليشيات التي تسمي نفسها (المقاومة الإسلامية في العراق) إطلاقة واحدة على القوات الأمريكية خلال أربع سنوات ونصف (من أيلول 2014، إلى أيار 2019) بل وقبلت الأوامر الأمريكية التي تمنع مشاركتها في بعض المعارك، كما حدث في المرحلة الأولى من معركة الموصل على سبيل المثال.
لكن هذه اللعبة المزدوجة تحولت إلى لعبة جر حبل بداية من أيار 2019، حين استأنفت الميليشيات استخدام الرسائل المسلحة عبر الكاتيوشا والدرونز، ضمن قواعد اشتباك متفق عليها ضمنيا، بين الأمريكيين والميليشيات المرتبطة بإيران عقائديا وتنظيميا، مع الحرص الشديد على عدم انفلات الأمور وتحولها إلى مواجهة حقيقية!

تراهن الحكومة العراقية على نهاية الحرب في غزة لإيقاف هذا الشوط «القاسي» من لعبة جر الحبل تلك، بانتظار أشواط أخرى، ما دامت ليست هناك إرادة حقيقية إيرانية أو عراقية

في كانون الأول 2019 تسببت صواريخ أطلقتها كتائب حزب الله على قاعدة K1 في كركوك بمقتل متعاقد مدني أمريكي، وإصابة 4 من أفراد الخدمة الأمريكية، وهو ما استدعى ردا مباشرا باستهداف المقاتلات الأمريكية 5 مواقع لكتائب حزب الله، 3 منها في العراق، و2 في سوريا، أدت إلى مقتل 28 مقاتلا. وقد أصدرت الحكومة العراقية برئاسة عادل عبد المهدي، يومها، بيانا قالت فيه إن هذا القصف «يعتبر انتهاكا للسيادة العراقية وتصعيدا خطيرا» وانتهى الأمر عند حدود ذلك البيان!
وحتى بعد اغتيال سليماني وأبو مهدي المهندس في كانون الثاني 2020، والتي عدها الكثيرون متغيرا يمكن أن يطيح بقواعد الاشتباك تلك، إلا أن الإيرانيين، ببراغماتيتهم المعهودة، لم ينجروا إلى رد الفعل، فعمدوا إلى قصف قاعدتي عين الأسد/ الأنبار، وحرير/أربيل بصواريخ أرض أرض متوسطة المدى (بيان الحرس الثوري الإيراني تحدث عن عشرات الصواريخ، فيما تحدث الأمريكيون عن 12 صاروخا). ولم يسفر الهجوم عن قتلى أمريكيين، بل مجرد إصابات محدودة، غالبيتها ارتجاج في الدماغ كما أعلن الجيش الأمريكي.
في حزيران 2021، قصفت قاعدة عين الأسد، وأُسقطت مسيرة مفخخة كانت تستهدف السفارة الأمريكية في بغداد قبل وصولها، وقد استدعى ذلك ردا أمريكيا بقصف ثلاثة مواقع على الحدود العرقية السورية. وقد استنكرت الحكومة العراقية برئاسة مصطفى الكاظمي حينها وعدته «انتهاكا صارخا للسيادة العراقية، ترفضه كل القوانين والمواثيق الدولية» وانتهى الأمر عند حدود ذلك البيان أيضا!
خفت وتيرة رسائل القصف المتبادلة بين الطرفين، بعد إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن في تموز 2021 نهاية العمليات القتالية في العراق بحلول نهاية العام، مع بقاء عدد من قواتها لتولي مهام تدريب الجيش العراقي وإمداده بالاستشارات العسكرية. وبعد إعلان نتائج الانتخابات المبكرة لمجلس النواب العراقي التي جرت بتاريخ تشرين الأول 2021، والتي تعرضت فيها القوى الشيعية الحليفة لإيران إلى هزيمة ثقيلة، عاد القصف مرة أخرى! فتعرضت قاعدة عين الأسد إلى هجومين في كانون الثاني ثم في أيار 2022.
و بعد إعلان التحالف الثلاثي بين التيار الصدري وتحالف السيادة والحزب الديمقراطي الكردستاني في نهاية آذار2022، الذي كان يهدف إلى تحييد حلفاء إيران، بدأت أربيل تتلقى هجمات صاروخية بشكل متزايد؛ ففي بداية شهر نيسان استهدفت أربيل بثلاثة صواريخ، ثم بستة صواريخ في بداية شهر أيار، ولم يقتصر سقوط الصواريخ على المصالح الأمريكية هذه المرة، بل قصفت ناحية الكرمة في محافظة الأنبار في كانون الثاني 2022، وقد كان واضحا للجميع أن هذه الهجمات كانت بمثابة معاقبة للكرد والسنة على دخولهم في هذا التحالف!
وتوقفت الهجمات الصاروخية والمسيرات المفخخة تماما بعد استقالة التيار الصدري من مجلس النواب في حزيران، بعد استعادة الإطار التنسيقي الذي يضم كل القوى الشيعية باستثناء التيار الصدري، هيمنته على مجلس النواب، وتمكنه من تشكيل الحكومة، لتُستأنف مرة أخرى، بعد توقف استمر 16 شهرا، وارتبط ذلك بالحرب على غزة في سياق الاستراتيجية التي اعتمدتها إيران ضمن ما تدعوه «وحدة الساحات» على أن تبقى ضمن حدود «المشاغلة» دون الدخول في مواجهة مفتوحة!
تكشف هذه الوقائع أن لعبة جر الحبل الأمريكية الإيرانية في العراق، إنما تخضع لتحولات العلاقة الأمريكية الإيرانية بالدرجة الأساس، وتخضع، بدرجة أقل، إلى الصراع السياسي داخل العراق، وأنها غير مرتبطة فعليا، بالوجود الأمريكي في العراق من حيث المبدأ، لهذا تراهن الحكومة العراقية على نهاية الحرب في غزة لإيقاف هذا الشوط «القاسي» من لعبة جر الحبل تلك، بانتظار أشواط أخرى، ما دامت ليست هناك إرادة حقيقية إيرانية أو عراقية، لخروج القوات الامريكية من العراق!