الوثيقة | مشاهدة الموضوع - تاريخ الغوغاء – عبد المنعم الاعسم
تغيير حجم الخط     

تاريخ الغوغاء – عبد المنعم الاعسم

مشاركة » الأربعاء مايو 01, 2024 1:48 pm

الموضوع في غاية البساطة: فانْ يكون الثائر والوطني والمجاهد من «الغوغاء» يضاهي حادثة اتهام الذئب بقتل يوسف، او كما كتبت صحيفة التايمز البريطانية عام 1943 عن غاندي بانه محارب دموي غوغاء، ينبغي القصاص منه.

اقول، هذا يختلف عن وجود اراء متباينة حول ما يرمز له شكل محدد او مخلوق معيّن، مثل طائر البوم الذي نعتبره رمزا للشؤم والشر والنحس، فيما يمثل في ثقافات اوربا الصناعية الحكمة والدهاء، غير ان البوم في جميع الاحوال يبقى ذلك الطائر الليلي الجارح، وصاحب المخالب القوية والمنقار المعقوف، والعيون القادرة على التكيُف والإبصار في العتمة، والمهووس بالعيش في الكهوف، وبالثبات على الوقوف ساكنا لساعات طويلة كي يفتك بضحاياه القوارض والحشرات التي القى بها حضها العاثر على طريقه.

وبالمناسبة، فان شعراء اوربيون قدامى تغزلوا بالبوم مثل «نيكولاس» قبل 800 عام فكتب قصيدة حوارية زخرت بمحاسن هذا الطائر بمقابل محاسن العندليب، لكن الاديبة غادة السمان نشرت ديوان شعر بعنوان «الرقص مع البوم» تضمن شعورا بالتوتر والقرف، وأيضا، الاعجاب بشكيمته وغطرسته، ومثلها وضع الشاعر اللبناني جورج جحا عنوانا لديوان شعري له هو «تقاسيم على اغنية طائر البوم» وهكذا صار للبوم معنيين، وصار الامر بالنسبة لقاموس اللغة مأزقا. والحال، فان ثوابت الاشياء لم تعد في موقعها كما كانت سابقا، وقبل ان تمر العاصفة العقلية ليصحوا الناس وكانهم كانوا في غيبوبة. اما التاريخ فانه سيسجل المرحلة في مسؤولية الارهاصات الاجتماعية، وليس في ذلك غرابة، فان التاريخ عِلمٌ مدلل، يقضي معضم اوقاته على موائد الاقوياء ويسهر لياليه بمصاحبة الاسماء الرنانة، مستهينا بالصعاليك والمهمشين وابناء البيوت المبنية بالطين، وبالعواطف والاغاني وهواة الصمت النبوي والكفاية بكسرة الخبز اليابسة.

مشكلة التاريخ معقدة، مثل مشكلة الغوغاء، وبخاصة موقفه من الباطل الذي يشكل كابوسا رهيبا لاصحاب الضمائر والاحسان والعقول النيرة، فهو يساوم الكثير من الطغاة والنصابين والسفاحين ويعطيهم الفرص الوفيرة والاموال والسلطات والصحة والقوة. اما الباطل هنا فهو كالفئران يعيش في الشقوق وقنوات الصرف الصحي، لكنه فتاك ومؤذ الى حد البشاعة، ويظهر لبعض البشر انيقا وجديرا بالاحترام والزهو والافتخار، أما المؤرخ الانجليزي الشهير ويلز فقد جمع في مجلداته عن «معالم تاريخ الانسانية» الباطل والحق من دون تسمية الاشياء باسمائها، وترك للمؤرخين اللاحقين، ولنا، هذه المهمة العسيرة.. تاريخ الغوغاء يجري تزويره الآن.. قتلة جاءوا أباهم عشاء يبكون.
مشاركة
العناوين الاكثر قراءة

 

العودة إلى المقالات