الوثيقة | مشاهدة الموضوع - لغز اختفاء عبد الكريم قاسم: أسرار غامضة من لندن إلى بغداد : صادق الطائي
تغيير حجم الخط     

لغز اختفاء عبد الكريم قاسم: أسرار غامضة من لندن إلى بغداد : صادق الطائي

مشاركة » الاثنين يوليو 29, 2024 1:24 pm

ما زال هنالك العديد من ثنايا حياة رئيس الوزراء العراقي الأسبق عبد الكريم قاسم يلفها الغموض، وتحتاج بحثا وتدقيقا لفهم ما جرى فيها، وبالتالي فهم ما جرى في تاريخ العراق القريب. ومن هذه الزوايا الغامضة اختفاؤه في لندن، العاصمة البريطانية قرابة السنة، وارتباط هذا الاختفاء بمرض كان يعاني منه، من دون أن يعرف أحد بدقة ما هو هذا المرض، وما الذي اتخذ من إجراءات لعلاجه.
ولكي نفهم أوليات القصة، وما كان يعانيه قاسم صحيا، لا بد من الإشارة إلى أنه حاول أن يكون طيارا مقاتلا بعد أن تخرج من المدرسة الحربية برتبة (ملازم ثاني)، لكنه فشل في الفحص الطبي الذي أجري في السادس من سبتمبر 1936، واتضح عدم صلاحيته للطيران، لانه كان يعاني من التهاب مزمن في الجيوب الانفية. وتشير إضبارة خدمته العسكرية إلى أنه كان دائم المراجعة الطبية بسبب هذه المشكلة.

ما زال هنالك العديد من ثنايا حياة رئيس الوزراء العراقي الأسبق عبد الكريم قاسم يلفها الغموض، وتحتاج بحثا وتدقيقا لفهم ما جرى فيها، وبالتالي فهم ما جرى في تاريخ العراق القريب

قصتنا تبدأ بتاريخ 11 /11/1946، عندما تقدم الرائد الركن عبد الكريم قاسم بطلب إجازة سنوية أمدها (120) يوماً يقضيها في سوريا وفلسطين ومصر وإنكلترا وتركيا، مع طلب تسليفه رواتبه لهذه المدة. وفعلا تمت موافقة وزارة الدفاع، ومنح الإجازة، وتم تسليفه رواتبه لثلاثة أشهر. انفك بتاريخ 7/12/1946 على أن يلتحق عند نهاية إجازته في 5 /4/1947. سافر مباشرة إلى إنكلترا، من دون المرور بالبلدان المشار لها في طلب الإجازة. التطور اللاحق في قصة الضابط المسافر إلى لندن كان في كتاب رسمي بعثه المقدم الركن الملحق العسكري في السفارة العراقية في لندن، إلى مدير الحسابات العسكرية العام برقم 630 والمؤرخ 19 أبريل 1947، ويشير فيه إلى دخول عبد الكريم قاسم إلى المستشفى في لندن. وبالنظر لاحتمال بقائه مدة أخرى للتداوي، فإنه يرجو إرسال رواتبه اعتباراً من شهر أبريل 1947 لدفعها له في لندن من قبل محاسب السفارة العراقية بناءً على رجائه. بعد مرور اربعة أشهر على انتهاء إجازة قاسم، انتبهت الجهات المختصة وتحركت، إذ أرسلت مديرية شؤون الدفاع العامة في وزارة الدفاع، كتابا بتاريخ 3/8/1947 تستفسر به عن المقدم الركن عبد الكريم قاسم الذي منح إجازة سنوية مدتها اربعة أشهر يوماً يقضيها خارج العراق. ويشير الكتاب إلى أن وزارة الدفاع لا تعلم عن مصير الموما إليه شيئاً، حيث لم يكن للوزارة علم بمصير هذا الضابط، سوى كتاب الملحق العسكري الذي أخبرها فيه أنه دخل المستشفى وأجريت له عملية لأنفه وخرج بعد شفائه، لذلك طلبت الوزارة إعلامها بالإجراءات المتخذة، وإرسال التقارير الطبية للحالة. حتى سبتمبر 1947، لم يظهر قاسم، ومن مقارنة التواريخ يمكننا أن نعرف أنه ظل مدة خمسة أشهر بين أبريل وسبتمبر 1947 غیر معروف الإقامة، وغير مسجل في السفارة، ولم يعد إلى العراق. وقد ذكر الملحق العسكري تاريخ خروج قاسم من المستشفى لكنه لم يذكر تاريخ دخوله لها. كما أن التساؤل الأهم هو: إذا كانت قد أجريت له عملية الجيوب الأنفية، كما أشار الملحق العسكري، وهي كما هو معلوم عملية بسيطة وغير خطيرة، إذن لماذا تأخر كل هذا الوقت، وأين كان؟ وماذا كان يفعل؟ حسب الكتاب الرسمي الصادر من وحدته، أعلن التحاق المقدم الركن عبد الكريم قاسم بتاريخ 21/10/1947، أي بعد حوالي11 شهرا من سفره إلى لندن، وفي الكتاب الرسمي إشارة إلى أن قاسم كان قبل ذلك ماكثاً في مستشفيات إنكلترا. ويبدو إنه طالب وزارة الدفاع بالمبالغ التي صرفها على العلاج، لأن المرض الذي أصابه كان في أثناء الخدمة ومن جرائها، ولم نعرف أصلا ما هو ذلك المرض. لكن يبدو أن المقدم عبد الكريم قاسم، أحيل لمجلس تحقيقي بمجرد التحاقه من إجازته، كما تعرض للكشف الطبي أيضا. والنتيجة تسوية الامر كما نقرأها في الكتاب الصادر من مدير الإدارة في وزارة الدفاع بتاريخ 3/12/1947 الذي تضمن، «لما كان قد ثبت أن المرض الذي أصاب المقدم الركن عبد الكريم قاسم، والذي أدى به إلى السفر إلى إنكلترا والمعالجة هناك في المستشفيات ودور التمريض وغيره،ا كان أثناء الخدمة ومن جرائها، حسب قرار المجلس التحقيقي المؤرخ في 19/11/1947، وقرار اللجنة الطبية العسكرية المؤرخ في 2/12/ 1947 المؤيد من قبل مدير الأمور الطبية. وعليه فإن الموما إليه أصبح مقبولاً بأحكام الفقرة (ب) من المادة (32) من قانون خدمة الضباط في الجيش رقم 31 لسنة 1937، وإن إجازاته تحسب كما يلي: 38 يوما إجازة براتب تام من 7/12/1946 إلى 13/1/1947، و281 يوماً إجازة مرضية براتب تام من 13 /1/1947 لغاية 21 /10/1947». وهنا يجب أن نذكر أن عبد الكريم قاسم كان بالأساس قد قدم طلبا لإجازته السنوية ليقضيها في عدد من الدول، ولم يذكر فيها أي سبب صحي، أو طلب سفر للعلاج أو إحالة من جهة طبية عراقية، لكنه عندما عاد، أحيل للتحقيق والكشف الطبي، وتم اتخاذ القرار بتسوية المشكلة واعتبار مدة انقطاعه إجازة مرضية، من دون إشارة لتحمل وزارة الدفاع مصاريف العلاج. هنا لا بد من ذكر بعض التكهنات التي تم تداولها عن مرض قاسم، الذي تسبب في اختفائه في لندن، إذ قال البعض إنه اجرى عملية تجميل لشفته العليا التي كان بها فتحة ولادية، وكانت تسبب له الحرج والشعور بالنقص. بينما قال آخرون إنه كان يعاني من اضطراب القولون العصبي، الذي تسبب باصابته بحالة عدم استقرار نفسي، وإنه خضع لعلاج طويل في بريطانيا لهذا السبب. كما أشار البعض إلى أنه أصيب بمرض تناسلي وحاول أن يجد له علاجا في بريطانيا، لكن من دون نتيجة، الأمر الذي تسبب بمنعه من الزواج حتى نهاية حياته. لكن تبقى كل تلك الاحتمالات عبارة عن تكهنات لا دليل عليها أو وثيقة تثبتها.
لم يُشِر إلى وجود قاسم في لندن سوى الشاعر محمد مهدي الجواهري في مذكراته. ففي الجزء الأول، في فصل بعنوان «الضابط الشاب»، يشير الجواهري إلى زيارته للندن ضمن وفد رسمي عام 1947، ويقول: «في الملحقية العسكرية بلندن، وهي أكبر ملحقية، كما هي أكبر سفارة للعراق في العالم، كانت بعثة عسكرية خاصة تضم ملحقين وموفدين من ضباط يتسابقون عليّ ، ويجرني الواحد بعد الآخر من أرداني». ثم يميز شيئا بقوله وكان بينهم ضابط شاب كان من دونهم، أشد الحاحاً عليّ بأخذ حصة أكبر، أو الحصة الكبرى من الجلسات واللقاءات، من جملة ذلك أن اصطحبني إلى بيته وهو شقة متواضعة بملحقاتها، شهدت ثلاث لقطات تصح أن تكون على بساطتها ذات كلمة ومغزى لما سيكون لهذا الرجل من دور خطير في تاريخ العراق». لنكتشف أن الضابط الشاب هو عبد الكريم قاسم الذي ساعد الجواهري في مشاويره في لندن ومنها الذهاب إلى طبيب أسنان أخصائي لعلاج مشكلة كان يعاني منها الجواهري بشكل مستمر.
يصل الجواهري إلى النقطة الاهم عندما يقول: وفي موقف تال، شكا لي، وأنا في إحدى تلك الزيارات والفحوص الطبية أمامه، أن وزارة الدفاع أو المسؤولين عنها، يرفضون أن يتكفلوا بمصاريف علاجه كما هو المفترض بكل ذي وظيفة، أو منصب في الدولة يصاب بهذا المرض، أو ذاك، وفي الصميم من القيام بخدماته فيها، فقلت له: إن هؤلاء القوم، وفي المقدمة منهم، الأمير عبد الإله، ونوري السعيد، وكما تعلم، يتوددون لي، فهل تسمح لي أن أذكر شكواك العادلة إليهم بأمانة؟ اكتفى الضابط الشاب بالسكوت وفهمت من ذلك ما سبقني إليه المثل القائل «السكوت من الرضى».
وفي الجزء الثاني من مذكراته، يشير الجواهري إلى مرض قاسم الذي يصفه بأنه مرض شبه عضال، إذ يقول:» فلربما أكون قد أتيت بالشيء الجديد الذي لا أتذكر أن أحداً قد تطرق إليه، فضلا عما ينبغي من أن يُشدد عليه لما له من خطورة وأهمية، ألا وهو المرض شبه العضال الذي شاءت الصدف أن أكون أول الشاهدين عليه في لقاءاتي معه بلندن قبل أكثر من عشر سنوات من ثورته حين كان يستعرض امامي فحوص الأطباء وكشوفاتهم، وهو في معرض التشكي من وزارة الدفاع، التي لا تريد أن تتحمل نفقاتها». ثم يضيف معلومة سرية أخرى مفادها؛ «كنت من الشهود النادرين على عقابيل مرضه هذا، وذلك عندما قام وفد من الأطباء الكبار، الذين استحضروا له من الاتحاد السوفييتي وطبعاً فبكل سرية وتحفظ بزيارة خاصة لي في بيتي بالأعظمية بحكم الصلة الوثيقة بيني وبينهم حتى إنني استثمرت وجودهم لإجراء فحص دقيق على ما كانت تشكو منه زوجتي. كان هذا المرض حتى بعد أن شفي منه كما هو المفترض، قد ظل ينعكس على طباعه المتقلبة الغامضة أحيانا وهذا ما غفل عن ذكره الكثيرون».
والخلاصة؛ أن لا احد يعلم لماذا اختفى قاسم في لندن طوال عام 1947 تقريبا، وما هو المرض الذي كان يتعالج منه هناك.
العناوين الاكثر قراءة









 

العودة إلى المقالات

cron