بغداد –
أحمد الشمري
تلعب المرجعية الدينية العليا، متمثلة بالمرجع الأعلى علي الحسيني السيستاني (94 عاما)، دورا فاعلا في المشهد العراقي بمختلف جوانبه، حيث كانت وما زالت لها مواقف مؤثرة في أوقات حرجة مرت بها البلاد، لكنها ومنذ سنوات قريبة أوصدت أبوابها بوجه الطبقة السياسية واكتفت ببياناتها بين الحين والآخر، ما أثار سؤالا حول استمرارها بلعب ذلك الدور السياسي المؤثر في الخفاء من عدمه.
وبينما كانت المرجعية الدينية، قد دعت الشعب العراقي بعد إسقاط نظام صدام حسين عام 2003، إلى المشاركة الفاعلة في أول انتخابات تشريعية حينها، والتي جرت بعد عامين من ذلك التاريخ، فهي تواصل وبشكل مستمر لترسيخ فكرة الانتخابات كممارسة وحيدة لاختيار شكل الحكم وتداول السلطة، وصولا إلى ما مر به العراق من تبعات سياسية أسقطت ثلث العراق بيد تنظيم داعش عام 2014، ودعوتها إلى استقالة حكومة عادل عبدالمهدي عام 2019 نتيجة الدماء التي سالت بتظاهرات تشرين والمطالبات الشعبية بحقوق طبيعية.
لكن مرجعية النجف، قامت وبشكل علني بإغلاق أبوابها أمام جميع الأطراف السياسية في العراق، كما أوقفت خطبة صلاة الجمعة التي كانت تؤشر فيها بعض النقاط سياسيا ومجتمعيا، وهي خطوات مثلت منذ ذلك الحين تعبيرا عن عدم الرضا على الممارسات الحزبية والسياسية واستشراء الفساد وعدم تلبية مطالب الشعب وزيادة الاحتجاجات على هذا النظام الحاكم، وبنفس الوقت مستمرة في إعلان مواقفها في القضايا البارزة مجتمعيا ومشاريع القوانين التي تمس الشعب، بالإضافة للأحداث الأمنية البارزة محليا وعربيا ودوليا.
وفيما إذا كانت المرجعية العليا، تؤدي اليوم دورا سياسيا بالخفاء، خاصة مع كثرة المطالبات في ظل التطورات الجارية، يقول الكاتب والأكاديمي، مسلم عباس، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إنه “لا يمكن للمرجعية إلا أن تلعب دورا سياسيا في بلد تتداخل فيه السياسة بالدين، وتعيش المنظومة السياسية وسط تموجات من الأزمات التي في الكثير من الأحيان تزاحم المرجعية وتدفعها لاتخاذ مواقف علنية أو تلميحية”.
ويضيف عباس، أن “خطبة الجمعة كانت موقفا دينيا وسياسيا للمرجعية، وإلغاء الخطبة هي موقف سياسي واضح، لاسيما بعد التبرير الذي أعلنه ممثل المرجعية أحمد الصافي بقوله إن إيقاف الخطبة جاء لعدم أخذ السياسيين بآراء ومواقف المرجعية”.
ويستدرك “لكن حتى مع توقف خطبة الجمعة السياسية، ما زالت المرجعية تمارس أدوارا سياسية عبر ممثليها في كربلاء (الكربلائي والصافي) فهما يستقبلان من يمثل الرؤية السياسية التي تناسب خط المرجعية، ويرفضان استقبال من يختلفون معها سياسيا، إلا أن كل ذلك يجري بأسلوب ناعم لا يحرج السياسيين، ولا يوضح طبيعة الدور السياسي للمرجعية”.
ويشير عباس، إلى أن “المرجعية لديها تصنيفات للسياسيين، وهي لا تحبذ من يرتمي كليا في أحضان الخارج، بينما تقرب أو تتسامح مع الأحزاب ذات التوجه الوطني، حتى وإن كانت لها معه بعض الخلافات الفكرية والسياسية”.
يذكر أن المرجعية الدينية العليا، أصدرت فتوى “الدفاع الكفائي” لشحذ همم المواطنين بالدفاع عن البلاد والمدن المقدسة، عندما سقطت مدينة الموصل بيد تنظيم داعش في حزيران يونيو 2014، في خطوة لدعم الأجهزة الأمنية بالمتطوعين وسد الثغرات التي كانت الحكومة بقواتها العسكرية عاجزة عنها لضعف التجهيز وقلة أعداد المقاتلين وسط فساد المنظومة العسكرية بالكامل.
ومثلت تلك الفتوى، نصرا كبيرا منذ لحظة إعلانها، حيث توجه الآلاف من العراقيين لتلبية النداء العسكري، حتى اكتملت صفوف القوات الأمنية وحققت بدماء الشهداء والجرحى تحريرا كاملا للمدن التي سيطر عليها التنظيم في كانون الأول ديسمبر 2017.
من جهته، يوضح الباحث السياسي، حيدر الموسوي، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “مرجعية النجف تختلف عن مرجعية ولاية الفقيه في إيران، ولو فرضنا أنها تؤمن أو تتبع ولاية الفقيه لكانت قد مارست دورا في العراق كما هو الدور المستمر في إيران والذي يمنحها اليد الأطول في جميع المفاصل”.
ويؤكد أن “المرجعية الدينية في النجف تتدخل بالعموميات فقط، كما حصل في دعوتها مؤخرا لتطهير مؤسسات الدولة من الفاسدين، وكذلك التحذير من مخاطر المخدرات”.
ويتابع “يمكن أن نشهد للمرجعية موقفا معينا أيضا، مع وجود مواقف خفية غير معلنة يمكن حصولها كما في تظاهرات تشرين وتنحية رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي حيث لعبت دورا واساسيا بتلك الاستقالة لأن الوضع كان يحتاج لتهدئة وعدم إراقة الدماء”.
ويشدد الموسوي، على أنه “من ذلك يتم معرفة دور المرجعية وتدخلها برسائل أو اتصالات مباشرة أو بطرق علنية كما في دعوتها الدفاع الكفائي عام 2014”.
ويعتبر أن “الطبقة السياسية تتمنى وتسعى للتقرب من المرجعية الدينية في النجف، ولكن الأبواب قد أغلقت منذ سنين لأنها تريد النأي بنفسها عن الكثير من الشبهات والأمور التي تحدث بأداء الطبقة السياسية ولا تحمل نفسها الكثير من قضايا الفساد التي يعرفها الشعب”.
ويبين أن “الطبقة الحالية وللأسف الشديد لم تلتزم بتوصيات المرجعية منذ سنوات وبالنهاية فموقف المرجعية الآن بدأ يتخذ خطوات مفهومة لدى البعض ممن يفهمونها كما في قضية غزة ودعمها لحركات المقاومة لمواجهة العدو الإسرائيلي ورفض عمليات استهداف المقاومة الإسلامية، كما تعتبر رافضة لاختراق واستهداف سيادة البلدان في العراق وغيره، كما وتعتقد بضرورة انسحاب كامل للقوات الأمريكية من الأراضي العراقي لكي لا تصبح ذريعة دائمة لاستهداف أي قطعات أو قوات عسكرية أو دول مجاورة”.
يذكر أن ممثل المرجعية الدينية العليا في كربلاء، أحمد الصافي، قد حدد في كلمة له بنيسان أبريل 2022، أسباب تعليق الخطبة الثانية لصلاة الجمعة والتي تحتوي نصا يأتي من المرجعية مباشرة، قد توقفت لأن بعض الكيانات السياسية لم تكن تستجيب للكثير مما بينته المرجعية الدينية ما جعلها لا تريد أن تخطب فقط؛ بل تريد الخطاب أن يؤثر، فيما أكد أن البعض كانت استجابته ضعيفة جدا مع تكرار مضمون الخطبة في أكثر من مرة.
وعلى ذات الصعيد، يعتبر الكاتب والباحث السياسي، داود سلمان، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “الشعب يثق بكل وقت بما تطرحه المرجعية الدينية العليا ولذلك هذا سيجعلها لا تبتعد كثيرا عن المشهد السياسي وتدخلها الحاسم والمؤثر به”.
ويلفت إلى أنه “منذ بداية تأسيس هذا النظام السياسي الجديد في العراق عام 2003 وإسقاط النظام الاستبدادي السابق كانت المرجعية مع النظام الجديد بالكامل وخاصة في مجلس الحكم والانتخابات الأولى وكتابة الدستور”.
ويتابع “بعدما تبينت ملامح النظام بعد العام 2010 تغيرت وجهة نظر المرجعية لأنه أثبت عدم قدرته على أن يكون مرضيا أو مقنعا للعقيدة والعمق الديني والشعبي لما يحمله من تصرفات كانت بعيدة عن روئ المرجعية والشعب رغم حملهم لأهداف إسلامية”.
ويرى سلمان، أنه “بعد تلك التصرفات والسياسات التي أظهرتها الأحزاب قامت المرجعية بالتدقيق والتمحيص في مواقفها وما تسير عليه الأحزاب لتجد عدم إمكانية الاعتماد عليهم في إدارة هذا البلد والعملية السياسية وهو ما دفعها لغلق أبوابها بوجه الجميع ومطالبتهم بإصلاح ذاتهم لكن لم تتحقق أمنيتها وهو ما دفعها للتشدد بمواقفها تجاه النظام السياسي وفق مقولة المجرب لا يجرب”.
ويؤكد أن “المرجعية الآن يفترض أن تكون لاعبا أساسيا وشموليا تجاه ما وصل إليه العراق وشعبه، كما لا يمكن الاعتقاد بأن ثقة الشعب بالمرجعية ودورها يجعلها تبتعد عن الوضع السياسي بل قد يكون دورها ناعما أو مخفيا، كما لا يمكن استبعاد وجود دور للمرجعية أو يد في المستقبل السياسي القادم بالعراق لأن ما يدور في الخفاء ويتم تناقله يدل على وجود رأي خفي وهو سديد وقوي يدعم مطالبات الشعب”.
ويوضح، أن “من يقومون بنشر وتبليغ رسائل المرجعية للشعب يؤكدون دائما نقمتها على الطبقة السياسية ورفضها للسياسات الحالية والممتدة منذ سنوات، وهي لا يوجد لها مثيل أنظمة العالم الفاسدة، حيث تلوثوا بالفساد وأكل الحرام وتركوا الشعب يعاني الكثير من المشاكل”.
وينبه سلمان، إلى أن “التصنيف الذي تعتمده المرجعية للطبقة السياسية، هي أن الكل لا يلتزمون بتوصياتها وإرشاداتها ولم يبرز أحد من القادة ليكون مثالا بذلك، لكن هناك قادة في الكوادر الوسطى يلتزمون بحذر بتلك التوصيات ولذلك لا يتم تقديمهم لمواقع متنفذة لأنهم يحاربون الفساد”.
ويختم كلامه بالقول، إن “الدور القادم للمرجعية سيكون حازما ورياديا تجاه جميع الموجودين في الطبقة السياسية، وهذا متوقع، حيث من المؤمل أن تضغط عبر القضاء والسلطة التنفيذية لمحاسبة من أفسد وابتز وسرق وتلاعب بثروات الشعب، كما يمكن حصول موقفا علنيا بتوجيه الشعب العراقي عبر انتخاب عناصر وطنية عراقية ولا تستخدم أسلوب التمويه والإشارة بالكتمان وتلك سمة المرجعية وشجاعتها”.
وفي آخر مواقفها الحازمة، دخلت مرجعية السيستاني، على خط مكافحة المخدرات، حيث أفتى بأن “الإدمان يسقط حق الحضانة”، معيدا التأكيد على أن “المخدرات محرمة بجميع أنواعها”، وأن “الأموال المستحصلة عن طريقها سحت (حرام) يحرم التصرف فيها”.
ومن الجدير بالذكر مواقف المرجعية الدينية على مدى تاريخ العراق لم تتوقف أبدا، ولا تعتبر جديدة الآن أو مقتصرة على فترة ما بعد 2003 بل إن المرجعية قد لعبت أدوارا مختلفة منذ تأسيس الدولة العراقية بمختلف الفتاوى التي شكلت ركائز مهمة في إدارة الحكم وتنظيم الأمور بمختلف جوانبها منذ العام 1920 وتأسيس الدولة العراقية الحديثة حينها.د