الوثيقة | مشاهدة الموضوع - تهميش حكومي ونبذ اجتماعي.. “كرماء النسب” في العراق يواجهون المجهول
تغيير حجم الخط     

تهميش حكومي ونبذ اجتماعي.. “كرماء النسب” في العراق يواجهون المجهول

مشاركة » الأربعاء سبتمبر 03, 2025 9:51 am

“بغطاء بسيط رث”، هكذا بدأت حياة الرضيع كريم النسب “عبد الله”، والذي أطلق عليه هذا الاسم بعد أن تم رميه أمام بوابة جامعة كركوك، ليجد نفسه داخل غرفة زجاجية في مستشفى الأطفال التابع لدائرة صحة المحافظة، في مشهد يعيد سلسلة من الحوادث المشابهة التي شهدتها المدينة خلال السنوات الماضية، ويكشف حجم غياب الدعم الحكومي لهذه الفئة المهمشة.

ويطلق وصف “كرماء النسب”، على مجهولي النسب من الأولاد غير الشرعيين من علاقات جنسية محرمة خارج إطار الزواج، أو نتيجة اغتصاب، أو من نسب صحيح لكن استغنى عنهم آباؤهم فلم يُعرف نسبهم.

وبحسب مصدر مسؤول في مستشفى الأطفال، فإن الطفل عبدالله يتمتع بصحة جيدة نسبياً، وقد أُجريت له الفحوصات الطبية اللازمة للتأكد من سلامته، وهو الآن تحت المراقبة المستمرة.

ويضيف المصدر الذي رفض الكشف عن أسمه، أن “الكوادر الصحية تتناوب على رعايته بشكل يومي وتحرص على توفير الدفء والهدوء له بعد الصدمة التي تعرض لها”، مبيناً أن “الإجراءات القانونية بدأت فور العثور على الطفل، إذ تم نقله إلى المستشفى بمذكرة قضائية رسمية، فيما يجري التنسيق مع الجهات المختصة للنظر في ملف تبنيه وفق الضوابط القانونية”.

ولا توجد إحصائية رسمية لكرماء النسب في العراق، إلا أنه في عام 2017 كانت دور الأيتام تضم قرابة 4500 طفل ما بين يتيم وكريم نسب في مختلف محافظات البلاد باستثناء محافظات اقليم كوردستان، بحسب تصريحات رسمية.

المشكلات الاجتماعية تتصدر الأسباب

إلى ذلك، يرى الباحث الاجتماعي عبد الرحمن علي، أن “ظاهرة رمي الأطفال حديثي الولادة في الشوارع ليست مجرد تصرف فردي، بل هي انعكاس لمشكلات اجتماعية واقتصادية عميقة، حيث أن كثيراً من الأمهات يجدن أنفسهن مضطرات للتخلي عن أطفالهن بسبب الفقر أو الخوف من وصمة اجتماعية، وأحيانًا نتيجة نقص الدعم النفسي والأسري”.

ويؤكد علي، أن “المجتمع بحاجة إلى تكثيف برامج الدعم للأمهات والفتيات، وإنشاء ملاجئ مجهزة، إلى جانب تسهيل إجراءات التبني لتوفير حياة كريمة للأطفال الذين تُركوا دون ذنب”، مشدداً على ضرورة “متابعة الحالات بشكل مستمر وتقديم الدعم النفسي للأمهات المحتاجات، مع إيجاد بدائل قانونية وسريعة لحماية الطفولة”.

تعاطف في الشارع

وأثار الحادث موجة تعاطف واسعة في الشارع المحلي وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، حيث عبّر ناشطون عن أسفهم لاستمرار هذه الظاهرة، فيما اعتبر بعضهم إطلاق اسم “عبدالله” خطوة رمزية تمنح الرضيع هوية مؤقتة إلى حين استقرار وضعه.

وكتب أحد المواطنين في تدوينة له، أن “هذا الطفل بريء من ذنب الكبار… عبدالله اليوم أصبح ابنًا لكل كركوك”، فيما علق آخر: “كل يوم نسمع عن رمي أطفال في الشوارع… نأمل أن تتحرك السلطات لإنهاء هذه الظاهرة”.

واستمرارا لتفاقم هذه الظاهرة، مصدر أمني مسؤول في كركوك، قال للوكالة، إن “حالة عبدالله، هي الرابعة خلال العام الحالي، إذ سجلت المحافظة ثلاث حوادث سابقة مشابهة، حيث تم العثور على أطفال حديثي الولادة في أماكن عامة ومهجورة، بعضهم لم يتجاوز عمره يوماً أو يومين”، مشيرا إلى أن “الجهود مستمرة لتتبع أي معلومات قد تكشف هوية الأمهات اللواتي تخلين عن أطفالهن، وكذلك لتقديم الدعم للأطفال المتروكين، إلا أن غياب الوعي الاجتماعي أحيانًا يعقد المهمة”.

وتعد هذه حادثة الطفل عبد الله، الأحدث ضمن سلسلة وقائع مشابهة شهدتها كركوك خلال العامين الأخيرين، منها العثور على رضيع في مكب نفايات بمنطقة قره‌هانجيري، واكتشاف طفل عمره ثلاثة أيام داخل مسجد في قرية إيلنجاغي شمال المحافظة، بالإضافة إلى احتجاز مستشفى كركوك لطفلين تخلّت عنهما والدتهما بعد الولادة، لعدم وجود دار رعاية تستقبل الأطفال دون الخامسة.

العقوبات تطارد المتسببين

وبحسب مختصين اجتماعيين وقانونيين، فإن أسباب هذه الظاهرة تتراوح بين الفقر المدقع وعدم القدرة على توفير متطلبات المعيشة، والحمل خارج إطار الزواج والضغوط الاجتماعية، والنزاعات العائلية والمشاكل الزوجية، إضافة إلى غياب الملاجئ المجهزة لرعاية الأطفال المتروكين، مشيرين إلى أن التعامل مع هذه الحالات بشكل إنساني سريع يمكن أن يقلل من المضاعفات النفسية والجسدية التي قد يتعرض لها الأطفال.

ومن الناحية القانونية، يوضح المحامي محمد العلي، أن “رعاية الأطفال المتخلى عنهم تخضع لإشراف محكمة الأحداث، التي تمنح حق الضم للعائلات الراغبة وفق شروط محددة أهمها السمعة الاجتماعية الجيدة، والاستقرار المادي والنفسي، وخلو سجل العائلة من الجرائم، وعدم وجود أطفال بيولوجيين في الأسرة”.

ويضيف العلي، أن “التبني يتم أولًا بشكل مؤقت لمدة ستة أشهر تحت متابعة باحث اجتماعي قبل أن يصدر قرار الضم الدائم، لضمان حماية الطفل قانونيًا واجتماعيًا”.

وتنص المادة 383 من قانون العقوبات العراقي على عقوبة الحبس لأي شخص يترك طفلاً في مكان خال من الناس بحيث يعرضه للخطر والجوع.

وتبقى هوية الطفل عبد الله محصورة، بالكوادر الصحية التي تتبناه مؤقتاً إلى حين حسم مصيره قانونيًا، ما يعكس حاجة المجتمع لتوفير مظلة قانونية لحماية هؤلاء الأطفال من خلال توفير الملاجئ، أو تسهيل التبني القانوني لهم، وذلك لضمان حياة كريمة لهم.

ومن أبرز حالات قضايا كرماء النسب في العراق، هي قضية الطفل “جوجو” في ديالى، والتي أثارت جدلاً واسعاً مطلع العام الجاري، خاصة وأن الطفل كان موجوداً في ثلاجة الموتى منذ عدة أسابيع دون إصدار تصريح رسمي بدفنه، بسبب الإجراءات القانونية التي تتطلب فترة زمنية محددة للبحث عن ذويه أو أقاربه لتسليمه.

وتعكس هذه الظاهرة، حجم التحديات التي تواجه السلطات المحلية في كركوك، وسط غياب برامج توعية مجتمعية للنساء، كما أنها تفتح النقاش حول دور الإعلام والمجتمع المدني في تقديم الدعم النفسي للأطفال والأمهات.
العناوين الاكثر قراءة









 

العودة إلى تقارير