الخرطوم ـ «القدس العربي»: في مدينة الفاشر، التي تمزقها الحرب وتئن تحت الحصار منذ أكثر من عام، لا يبدو أن الرصاص وحده ما يفتك بسكانها. فمع تصاعد العمليات العسكرية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، برزت اتهامات خطيرة باستخدام أسلحة كيميائية محرّمة دوليًا، أثارت قلقًا داخليًا ودوليًا، وفتحت الباب أمام جولة جديدة من الجدل السياسي والدبلوماسي والقانوني.
لكن هل فعلاً تم استخدام أسلحة كيميائية في النزاع السوداني؟ ومن المسؤول؟ وماذا تقول الجهات الدولية والمحلية؟
أعراض مريبة في الفاشر
برزت الشكوك مرة أخرى، حين رصدت تنسيقية لجان المقاومة في الفاشر حالات مرضية غير معتادة وسط المدنيين، بينها أطفال ونساء، يعانون من ضيق في التنفس، غثيان حاد، وتشنجات عصبية، من دون وجود أسباب طبية واضحة، بالتزامن مع تعرض المدينة للقصف من طائرات مسيّرة.
تقول التنسيقية في بيان أصدرته: «لاحظنا استخدام غازات مجهولة المصدر ذات رائحة نفاذة وسامة، أعقبتها حالات اختناق شديدة في المناطق المستهدفة، ما يرجح استخدام مواد كيميائية ذات طبيعة قاتلة.»
كما قال مصدر طبي لـ«القدس العربي» إن الهجمات الأخيرة على المدينة شملت «غازات تسبب اختناقات حادة»، وقال إن بعض المرضى ظهرت عليهم أعراض «تعكس التعرض لمواد كيميائية سامة».
وعززت هذه المخاوف تصريحات عبدالعزيز أوري، مسؤول الإعلام في حكومة إقليم دارفور، الذي أتهم قوات الدعم السريع بإلقاء «رؤوس أسلحة محظورة دوليًا عبر طائرات مسيرة»، مشيرا إلى «روائح غريبة وغازات تسببت في حالات مرضية خطيرة، استدعت تدخلات طبية عاجلة».
فيديوهات وشهادات من الميدان
نُشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع مصوّرة وثقها جنود في القوة المشتركة، تُظهر عبوات غامضة تنبعث منها غازات كثيفة في مناطق انسحب منها الدعم السريع.
القيادي في القوة المشتركة، محمد آدم (كش)، قال في تصريح مسجل: «رأينا عبوات تنبعث منها أدخنة صفراء وخضراء، تسببت في حالات اختناق وسط القوات، وحتى الحيوانات نفقت في بعض المواقع. لا نستطيع الجزم بأنها أسلحة كيميائية، لكنها بالتأكيد مواد سامة.»
هذا المشهد دفع العديد من الجهات المحلية إلى المطالبة بفتح تحقيق دولي مستقل، واعتبرت تنسيقية لجان مقاومة الفاشر أن ما حدث «يمثل جريمة حرب متكاملة الأركان»، مطالبة بـ«تحقيق عاجل من قبل الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية».
المفارقة أن قوات الدعم السريع لم تكن وحدها في مرمى الاتهام، إذ قالت منظمة «هيومن رايتس ووتش» إن وسيلة إعلام فرنسية حققت في حادثتين يُحتمل أن الجيش السوداني استخدم فيهما غاز الكلور في أيلول/سبتمبر 2024، في قاعدة قري العسكرية ومصفاة الجيلي شمال العاصمة السودانية الخرطوم.
وأوضحت المنظمة أن صحافيي القناة الفرنسية أعلنوا عثورهم على «أدلة مرئية لعبوات غازية ملونة، ومقابلات مع شهود عيان أكدوا ظهور أعراض اختناق بعد الهجمات».
وهنا، تتعقد الرواية أكثر، مع تبادل للاتهامات، وغياب جهة محايدة تثبت أو تنفي استخدام تلك الأسلحة.
اتهامات رسمية وعقوبات أمريكية
في 21 أيار/مايو الماضي، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية رسميًا اتهامها لحكومة السودان باستخدام أسلحة كيميائية عام 2024، وفقًا لقانون الأسلحة الكيميائية والبيولوجية الأمريكي لعام 1991.
وجاء في بيان المتحدثة باسم الخارجية، تامي بروس، «أن حكومة السودان غير ممتثلة لاتفاقية الأسلحة الكيميائية، وستُفرض عليها عقوبات شاملة تشمل منع الصادرات والتكنولوجيا الحساسة، ووقف التمويل والدعم الحكومي الأمريكي.»
وأشارت إلى أن الولايات المتحدة قررت بموجب قانون مراقبة الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والقضاء عليها لعام 1991 (قانون الأسلحة الكيميائية والبيولوجية) أن حكومة السودان استخدمت أسلحة كيميائية في عام 2024.
وقالت إن القرار بالخصوص سُلِّمَ إلى الكونغرس، إلى جانب ملحق لتقرير الشرط 10(ج) الصادر في 15 نيسان/أبريل 2025 بشأن الامتثال لاتفاقية الأسلحة الكيميائية، والذي أشار إلى «أن حكومة السودان غير ممتثلة للاتفاقية، التي هي طرف فيها».
وذكرت وقتها أنها بعد مهلة إخطار مدتها 15 يومًا من الكونغرس، ستفرض عقوبات على السودان، تشمل قيودًا على الصادرات الأمريكية إلى السودان، وعلى الوصول إلى خطوط الائتمان الحكومية الأمريكية.
ودخلت العقوبات بالفعل، حيز التنفيذ في حزيران/يونيو 2025، وتم تمديدها لعام كامل.
وشملت أيضا، إنهاء المساعدات الخارجية غير الإنسانية، ووقف مبيعات الأسلحة وتمويلها، وحرمان السودان من أي قروض أو دعم مالي حكومي أمريكي، بالإضافة إلى حظر تصدير السلع والتكنولوجيا الحساسة للأمن القومي.
رد الحكومة السودانية: «مزاعم سياسية»
الخرطوم من جانبها نفت بشكل قاطع الاتهامات الأمريكية، ووصفتها بأنها «محض افتراء»، و«محاولة جديدة للابتزاز السياسي».
وقالت وزارة الخارجية السودانية في بيان مطول: «تفاجأنا بإصدار الإدارة الأمريكية اتهامات خطيرة بدون اتباع الآلية الدولية المخولة بهذا الشأن؛ وهي منظمة حظر الأسلحة الكيميائية التي نتمتع بعضويتها، بل بعضوية مجلسها التنفيذي».
وأشارت إلى أن واشنطن لم تقدم أي بلاغ رسمي للمنظمة، وإنما بدأت بتسريبات صحافية، وهو ما ينافي روح التعاون الدولي، حسب تعبيرها.
وأعلنت الوزارة عن تشكيل لجنة وطنية للتحقيق تضم ممثلين من وزارتي الخارجية والدفاع وجهاز المخابرات، إضافة لخبراء من الأدلة الجنائية والطب العدلي.
لجنة وطنية لتحقيق داخلي
في 29 أيار/مايو الماضي، أصدر رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قرارًا بتشكيل لجنة تحقيق وطنية للتقصي في مزاعم استخدام الجيش لأسلحة كيميائية.
ورغم أن القرار قوبل بالترحيب محليًا، إلا أن منظمات حقوقية دولية رأت أن التحقيق يجب أن يكون دوليًا ومستقلاً، لضمان الشفافية والحياد. في المقابل، قالت وزارة الخارجية إن الخطوة «تأتي في إطار الالتزام بالاتفاقيات الدولية، والحرص على الشفافية رغم التشكيك الأمريكي».
دور المنظمة الدولية… غائب أم مُغيّب؟
في خضم التراشق السياسي بين السودان والولايات المتحدة، تبرز منظمة حظر الأسلحة الكيميائية كطرف معني مباشر بالقضية، ولكن دورها بدا حتى اللحظة هامشيًا أو مؤجلاً، ما أثار انتقادات من عدة جهات، خاصة داخل السودان.
فبينما أكدت الخرطوم أنها لم تتلق أي إخطار رسمي من واشنطن عبر المنظمة، التزمت الأخيرة الصمت في الغالب، واكتفت بالإشارة إلى وجود «طلبات إيضاح» من بعض الأعضاء.
ويُعد هذا الحضور المتواضع لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، عن مسار الاتهامات خطيرًا، لأن اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، التي وقعها الطرفان، تنص بوضوح على آليات التحقيق المشتركة والإبلاغ الرسمي عبر قنوات المنظمة. وبالتالي، فإن تجاوز هذه الآلية، كما تقول الحكومة السودانية، «يطرح علامات استفهام بشأن أهداف الحملة الأمريكية.»
الخرطوم اعتبرت ذلك تجاوزًا خطيرًا، حيث قالت وزارة الخارجية السودانية: «الاتفاقية لا تتيح لأي دولة الانفراد بإصدار قرارات وإجراءات بدون العودة للمنظمة، وإلا فإننا أمام سابقة تُقوّض القانون الدولي برمته.»
تفاعلات دولية معقدة
في حزيران/يونيو 2025، ناقش المجلس التنفيذي لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية في لاهاي القضية، بناءً على طلبات إيضاح من عدد من الدول الأعضاء حول المزاعم الأمريكية.
قدم وفد السودان في الجلسة بيانًا أكد فيه التمسك الكامل باتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، ورفض السودان القاطع لاستخدام تلك الأسلحة، مشيرًا إلى أن «الاتهامات الأمريكية لم تلتزم بالإجراءات المعتمدة في الاتفاقية».
وطالب الوفد بتمكين اللجنة الوطنية السودانية من مواصلة أعمالها من دون تدخل، مؤكدًا الاستعداد الكامل للتعاون الفني مع المنظمة في حال توفير البيانات من الجانب الأمريكي. وقال إن التعامل الموضوعي مع أي مزاعم يتطلب الإطلاع على المعلومات التي بنيت عليها، وأن هذا ما تعمل عليه الحكومة السودانية عبر قنوات الاتصال الفني مع الجانب الأمريكي، الذي أبدى استعداداً لتزويد السودان بالبيانات والتفاصيل الضرورية خلال الفترة القادمة.
ودعا وفد السودان المجلس التنفيذي إلى إتاحة الفرصة لهذا المسار لاستكمال أعماله بروح من التعاون البناء مؤكدا التزام الحكومة الكامل بأحكام اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، واستعدادها التام للتعاون مع المنظمة وجميع الدول الأطراف، دعماً للجهود الدولية الرامية إلى منع انتشار واستخدام الأسلحة الكيميائية، وتعزيز الأمن والسلم على الصعيدين الإقليمي والدولي.
لاحقا، في تموز/يوليو الماضي، قالت الحكومة السودانية، أنها شرعت في اتخاذ تدابير عملية للتعاطي مع المزاعم الأمريكية باستخدام الجيش أسلحة كيميائية في الحرب المندلعة في البلاد منذ منتصف نيسان/أبريل 2023. وأشارت إلى أن واشنطن أبدت استعدادها لتزويد السودان بالبيانات والتفاصيل الضرورية بالخصوص خلال الفترة القادمة.
وقالت وزارة الخارجية السودانية: «أن القرار جاء التزاما بتعهدات السودان الدولية ومنها اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، وفي إطار الشفافية الحكومية على الرغم من عدم قناعتها بصحة إتهامات الإدارة الأمريكية باستخدام السودان للأسلحة الكيميائية».
هل هي أوراق ضغط سياسي؟
يرى خبراء ومحللون سياسيون أن الاتهامات الأمريكية قد تحمل أبعادًا تتجاوز الجانب الإنساني والتقني، وتندرج ضمن محاولة للضغط على الجيش السوداني ودفعه إلى قبول خريطة طريق معينة لوقف الحرب والتسوية السياسية، خاصة وأن اتهامات واشنطن تزامنت مع تصريحات للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قال خلالها أن إدارته تعمل على دفع جهود التسوية السلمية في كل من السودان وليبيا، في إطار استراتيجية جديدة تهدف إلى تعزيز الاستقرار الإقليمي عبر الحوار السياسي والتعاون الاقتصادي.
غموض… وثمن باهظ
حتى الآن، لا توجد أدلة قاطعة منشورة رسميًا تثبت استخدام الجيش أو الدعم السريع للأسلحة الكيميائية، رغم خطورة الاتهامات وتصاعد وتيرتها منذ منتصف العام الماضي.
وتشير مصادر سياسية مطلعة إلى أن الاتهامات أصبحت ورقة ضغط سياسية تستخدمها الأطراف الدولية لتعزيز نفوذها في الملف السوداني المعقد.
ويخشى مراقبون أن تؤدي العقوبات الأمريكية، إن استمرت، إلى زيادة معاناة المدنيين، في بلد يعاني بالفعل من انهيار اقتصادي وصحي، ونزوح ملايين السكان.
الواقع الإنساني على الأرض
في مدينة الفاشر وحدها، تجاوز عدد المدنيين المحاصرين أكثر من 300 ألف نسمة، بينما تم رصد أكثر من 1300 قتيل منذ بداية العام الجاري إثر عمليات القصف المدفعي التي تنفذها قوات الدعم السريع على المدينة المحاصرة منذ نحو العام ونصف العام، حسب تقارير منظمات إنسانية، حيث يعيش الأهالي وسط قصف عشوائي، ونقص حاد في الغذاء والدواء، وتفشي واسع للأوبئة.
وقال مصدر طبي في المدينة تحدث لـ«القدس العربي»: «نعاني من شح كبير في الأدوية وأسطوانات الأكسجين. هناك حالات اختناق لا نجد لها تفسيراً طبياً واضحاً. بدأنا نشك فعلاً أن هناك مواد غير تقليدية تستخدم في الهجمات.»
ويضيف: «الوضع الإنساني مروّع. لا طعام، لا ماء نظيف، لا مأوى آمن. والموت يأتينا من السماء.»
مسؤولية معلقة بين السياسة والميدان
ما بين اتهامات متبادلة، وتحقيقات معلقة، وردود متناقضة، تبقى الحقيقة حول استخدام الأسلحة الكيميائية في السودان غامضة وغير محسومة حتى اللحظة.
لكن ما هو مؤكد أن المدنيين وحدهم من يدفعون الكلفة الباهظة، في ظل الحرب التي تدور رحاها في البلاد منذ أكثر من عامين ونصف العام.