في قاعة تُطلّ على البحر الأحمر في شرم الشيخ، وبين حشد من القادة والوفود الذين جاءوا يتحدثون عن السلام في غزة، التفت الرئيس الأميركي دونالد ترمب فجأة إلى العراق بجملة قصيرة، لكنها اخترقت الصمت: “العراق بلد مليء بالنفط.. لكنه لا يعرف ماذا يفعل به، وهذه مشكلة عليكم”.
لم يكن أحد يتوقع أن يعود العراق إلى خطاب ترمب بهذه الطريقة، بعد سنوات من الغياب عن دائرة الضوء الأميركي. غير أن الجملة، على قصرها، بدت كما لو أنها إشارة لمرحلة جديدة، أو تذكير من رئيس يعرف تماماً كيف يُلقي حجراً صغيراً في مياه راكدة لتتحرك الدوائر حوله.
بعد يومين فقط، وجّه ترمب تهنئة رسمية إلى بغداد بمناسبة العيد الوطني، تحدث فيها عن “علاقات تاريخية وشراكة متجددة”. وفي نهاية الأسبوع نفسه، أعلن تعيين رجل الأعمال الأميركي من أصل عراقي مارك سافايا مبعوثاً خاصاً إلى العراق.
بدا تسلسل الأحداث كأنه سرد محكم أكثر من كونه مصادفة سياسية، فمن تحذير، تهنئة، ثم مبعوث. ثلاث إشارات متتابعة تكفي لإحياء ملف ظلّ خاملاً في أدراج السياسة الأميركية منذ انسحاب قواتها قبل أكثر من عقد.
في البيت الأبيض، لم تُقدَّم تصريحات إضافية تشرح ما قصده ترمب بعبارته في القمة. لكن كثيرين قرأوا في كلماته ما يتجاوز التوبيخ العابر.
“تصريحه يُسلّط الضوء على أهمية الإدارة المسؤولة للموارد والتعاون بين البلدين”، يقول فرانك مسمار، عضو الحزب الجمهوري ورئيس المجلس الاستشاري في جامعة ميريلاند.
بالنسبة له، ما قاله ترمب ليس هجوماً بل دعوة لإعادة تعريف العلاقة مع بغداد من زاوية اقتصادية، وربما أيضاً رسالة غير مباشرة إلى طهران بأنّ واشنطن ما زالت تملك أوراقاً في الجوار.
لكن بول سوليفان، أستاذ أمن الطاقة في جامعة جونز هوبكنز، رأى شيئاً مختلفاً: “من الصعب أحياناً معرفة ما يقصده ترمب، لكن يمكن فهمه على أنه يحثّ العراق على استخدام نفطه لبناء الاستقرار، لا لتغذية الفوضى”.
ويشير سوليفان إلى أن ترمب ينظر إلى العراق بوصفه بديلاً محتملاً للنفط الروسي في بعض الأسواق، لكنه لا يثق بعلاقة بغداد مع طهران، خصوصاً في مجال الطاقة.
“العقوبات الفورية تجعل المشهد معقداً، والعراق إذا استخدم طاقته لدعم أعداء واشنطن فقد يجلب لنفسه المتاعب”، يقول الأستاذ الجامعي بنبرة واقعية تشي بخبرة طويلة في قراءة الإشارات الأميركية.
في بغداد، تلقّى المسؤولون تلك الإشارات بحذر واضح. كان تعيين سافايا الرجل الذي يتحدث العربية، ويعرف طبائع العراقيين، وله جذور في الموصل القديمة خطوة تكررت في دبلوماسية ترمب حيث سبق وأن كلف المبعوث للشرق الأوسط ستيف ويتكف، والمبعوث لسوريا ولبنان توماس باراك وهما من خلفية بعيدة عن العمل السياسي.
في واشنطن، وُصف سافايا بأنه “مبعوث لمرحلة خاصة”، وأن مهمته ستتركز على ملفي النفط والإصلاح المالي مع كبح لسطوة الفصائل المسلحة القريبة من طهران. في بغداد، كان التفسير أكثر بساطة “ترامب يريد عيناً تراقب”.
حين يتم تأمل المشهد كاملاً، يبدو أن واشنطن تختبر أسلوباً جديداً في التعامل مع العراق. فبدلاً من الخطاب الأمني المألوف، تسعى اليوم إلى إعادة صياغة العلاقة على أساس “النفط والحوكمة”.
لم يعد السؤال كيف يحارب العراق الإرهاب، بل كيف يُدير ثروته. وهذا التحول في النغمة قد يكون أخطر من أي تحذير سياسي، لأن إدارة الموارد في بلدٍ مثل العراق تعني إدارة التوازن بين الولاءات، والفساد، والنفوذ الأجنبي، والاقتصاد الهش الذي يعيش على عائدات النفط وحدها.
الآن، مع مبعوث جديد يجلس على مقعد “الملف العراقي”، ومع رئيسٍ يستعيد مفرداته الصاخبة، يعود العراق إلى واجهة المشهد الأميركي ليس كحرب منسية، بل كحقل مفتوح للفرص والقلق معاً.
كل ذلك بدأ من جملة قصيرة، قالها ترمب في قاعة مضاءة بأعلام الشرق الأوسط، لكن صداها امتد مباشرة إلى بغداد، وإلى كل بئر نفط لم تُحسَم بعدُ قصتها.
وفي مقابلة خاصة، يقول القائم بالأعمال الأميركي جوشوا هاريس، إن العراق “ما يزال يحظى بمكانة محورية في سياسة الولايات المتحدة”، مضيفاً أن “ما يجري ليس تراجعاً، بل إعادة صياغة للمصالح. كما أن الولايات المتحدة بقيادة الرئيس ترامب تضع مصلحة أميركا أولاً، وهذا مبدأ فاعل يتم تطبيقه هنا وفي جميع أنحاء العالم”.
بدا وكأنه يريد القول إن العراق ما زال ضمن الدائرة، لكنّ طبيعة الدور تغيّرت، من الوصاية إلى الشراكة، من الوجود العسكري إلى النفوذ الاقتصادي.
ومنذ بداية الولاية الثانية لترمب، لم تُعيّن واشنطن سفيراً جديداً في بغداد، ما أثار في أوساط الباحثين والسياسيين العراقيين تساؤلاتٍ عن مغزى هذا الفراغ. غير أن هاريس قلّل من أهمية ذلك، مشيراً إلى أن الإدارة “تعمل من خلال فريقٍ من المهنيين” يركّز على جعل أميركا “أكثر أمناً وقوة وازدهاراً”، وهي رؤية تنعكس في “شراكات ثنائية تلبي حاجة البلدين”.
بدا واضحاً أنه يتحدث بعبارات مدروسة، لتؤكد أن واشنطن لا تنسحب من العراق، بل تغيّر أدواتها فقط.
ويضيف هاريس أن الولايات المتحدة تريد أن ترى “عراقاً مستقبلياً، سيداً، آمناً داخل حدوده، يساهم في استقرار المنطقة، وأكثر ازدهاراً من خلال التنمية والمشاركة الاقتصادية”.
الجملة الأخيرة بدت امتداداً غير مباشر لتحذير ترمب نفسه في شرم الشيخ. فإذا كان الرئيس قد لمح إلى سوء إدارة الثروة النفطية، فإن دبلوماسييه في بغداد يحاولون الآن ترجمة تلك الملاحظة إلى خطة.
الحديث عن المصلحة المشتركة بدا في ظاهره استمراراً للنهج الأميركي القديم، لكنه يحمل في عمقه شيئاً جديداً، حيث لم تعد واشنطن ترى العراق كملف أمني فحسب، بل كمعادلة اقتصادية في قلب الشرق الأوسط الجديد الذي يحاول ترمب هندسته عبر اتفاقات السلام والطاقة.
وفي الوقت الذي يتراجع فيه الوجود العسكري الأميركي، تصعد أدوات أخرى حيث المبعوث الخاص مارك سافايا، البعثة الاقتصادية، وشبكات الاستثمار المتداخلة لملء الفراغ السياسي بترتيبات مالية وتجارية أكثر إحكاماً.
ومنذ سقوط النظام السابق عام 2003، تغيّرت علاقة واشنطن ببغداد مثل بندولٍ يتأرجح بين الانغماس والانسحاب.
بوش جعل من العراق ساحة التجربة الأولى لـ”الشرق الأوسط الديمقراطي”، أوباما غادرها ثم عاد إليها على وقع تمدّد داعش، وبايدن اكتفى بمهمة استشارية تضمن بقاء الحضور الأميركي بلا ضجيج. واليوم، في عهد ترمب الثاني، يبدو أن واشنطن تختبر صيغة رابعة تتركز على نفوذ بلا سفارة كاملة، حضور بلا جنود، تأثير من خلف ستار الاقتصاد والطاقة.
في هذا السياق، يصبح تصريح ترمب عن النفط أقلّ عفوية مما بدا عليه في لحظته الأولى. إنه افتتاح لفصلٍ جديد في علاقةٍ مضطربة، يريد فيها الرئيس الأميركي أن يُعيد رسم الحدود بين من يملك النفط ومن يعرف كيف يستعمله. أما بغداد، التي سمعت في الوقت نفسه تهنئة بالعيد الوطني وتحذيراً مبطّناً، فهي تجد نفسها مجدداً بين عبارتين من واشنطن: الشراكة.. والمساءلة.