في الوقت الذي ينتظر فيه الغزيون قرار ترامب بشأن تحرير الـ 200 عضو من حماس، العالقين في الأنفاق، ويتجدد في لبنان تهديد الحرب، بدأ الرئيس الأمريكي في استكمال “رزمة الاتفاق” مع سوريا، التي ربما يستطيع بمساعدتها تحقيق إنجاز سياسي حقيقي. الإثنين، سيزور الرئيس السوري أحمد الشرع البيت الأبيض. هذا الحدث جدير بوصفه بأنه تاريخي: هذه هي المرة الأولى التي يزور فيها رئيس سوري هذا الصرح.
ربما يقدم الشرع المهر لنظيره الأمريكي، وهو مفهوم مدهش عندما يدور الحديث عمن كان قبل عشرة أشهر يعتبر إرهابياً، وثمة جائزة موضوعة على رأسه تبلغ 10 ملايين دولار. هذا المهر يتضمن، ضمن أمور أخرى، استعداده للانضمام إلى التحالف الدولي ضد “داعش”، وموافقة مبدئية، وربما حتى يتجاوز ذلك، للتوقيع على اتفاقات أمنية مع إسرائيل وإعلان نوايا بشأن الانضمام إلى “اتفاقات إبراهيم”. في المقابل، يتوقع الشرع رفعاً كاملاً وشاملاً لكل العقوبات المفروضة على سوريا، وهو الأمر الذي سيفتح شرايين الاستثمارات والمساعدات التي تحتاجها الدولة للبدء في إعادة الترميم من الدمار الذي تسببت به الحرب الأهلية.
شبكة العلاقات التي تطورت بين سوريا-الشرع وترامب ليست فقط إحدى الحروب التي يحب ترامب التفاخر بإنهائها، أو إنجاز آخر في الطريق إلى جائزة نوبل، التي فاتته هذه السنة. يبدو أنها جاءت كهدية قدمها ترامب لـ “صديقه المحبوب” ولي العهد السعودي. سارع بن سلمان إلى الاعتراف بنظام الشرع، وأقنع زعماء دول الخليج بتبني قائد “هيئة تحرير الشام” باعتباره الزعيم الشرعي لسوريا. في نهاية المطاف، وضع كل ثقله وأمواله على ترامب، وحصل على الاعتراف منه أيضاً.
لو كان الحديث عن دولة أخرى لانتهى بحفل إعلامي واسع وعناق وتبادل المجاملات، لكن سوريا اليوم في منطقة استراتيجية إقليمية تضم، إلى جانب السعودية ودول الخليج، تركيا وإسرائيل ولبنان، وهذه روسيا تسعى بجهد لاستعادة بعض قواعدها العسكرية التي كانت لها في عهد الأسد. وبالنسبة للأمريكيين، فإن نجاح الإدارة الأمريكية في سوريا قد يحرر الولايات المتحدة من التواجد العسكري هناك، ويحقق حلم ترامب بالتحرر من “الدولة التي لا شيء فيها سوى الرمال”.
لكن الطريق إلى هناك ما زالت طويلة ومتعرجة وفيها ألغام. فالشرع، الذي لا يسيطر في الوقت الحالي إلا على 60 في المئة من أراضي سوريا، يحتاج إلى كاسحة الألغام الأمريكية لشق الطريق أمامه إلى سيادة كاملة على كل الدولة، وتحييد كتل المعارضة الكبيرة التي تعترض طريقه، وموازنة المصالح الخارجية التي بدأت تفرض رعايتها عليه. السعودية تتصدر المشهد في خضم الصراعات المتنافسة على النفوذ في سوريا، كونها التي منحت “الشرع” الشرعية. وربما تزج بمليارات الدولارات لإعادة إعمار البنى التحتية وبناء المؤسسات الحكومية، لكن تركيا هي الدولة التي تتصدر “اللعبة الكبيرة”، وربما تحصد الغنائم السياسية الرئيسية.
اكتسبت أنقرة سمعة طيبة في سوريا في سنوات الحرب عندما دربت ومولت ووجهت وساعدت “الشرع” في مواجهة نظام الأسد، وهي تعتبر شريكة ومسؤولة عن نجاح حملة الاستيلاء السريعة التي أطاحت بالأسد في كانون الأول الماضي. تركيا، التي تحتل مناطق في شمال سوريا، جعلت نفسها شريكة عسكرية وسياسية منذ الأيام الأولى لتأسيس نظام الشرع، حيث بدأت في تدريب الجيش السوري “الجديد”، واحتفظت بعدد من القواعد العسكرية في سوريا، وهي بطبيعة الحال القناة الرئيسية لمرور البضائع والأشخاص بين الدولتين. ونتيجة لذلك، هي أيضاً صاحبة النصيب الأكبر عند توزيع مشاريع إعادة إعمار الدولة.
وهذا لا يقتصر على المصالح الاقتصادية المعروفة. فتركيا تطمح إلى تفكيك القوة العسكرية للأكراد في سوريا، الذين تعتبرهم تنظيماً إرهابياً يهدد أمنها الوطني. بناء على ذلك، هي تعتبر الشرع وجيشه ذخراً استراتيجياً قد يحقق هذا الهدف من أجلها. ولكن “قوات سوريا الديمقراطية” (إس.دي.إف)، مثلما تسمى الوحدات الكردية المسلحة، كانت وما زالت حليفة الولايات المتحدة في الحرب ضد “داعش”. هذه الوحدات، التي حصلت على الثناء من الولايات المتحدة والدول الأعضاء في التحالف الدولي ضد إرهاب تنظيم “الدولة الإسلامية”، تحظى من أمريكا على التمويل والتسليح والتدريب والمعلومات. وتحتفظ أيضاً في حدودها بمعتقلات رجال “داعش” المسجون فيها عشرات آلاف النشطاء وأبناء عائلاتهم.
الرئيس التركي الذي اعتقد أن التحالف الأمريكي – الكردي تهديداً لتركيا، عرض على الرئيسين بايدن وترامب (في ولايته الأولى) تحمل المسؤولية عن محاربة “داعش” بدلاً من الأكراد، وحتى إدارة المعتقلات الضخمة. إن رفض اقتراحه في كل مرة زاد التوتر والغضب الذي أظهره أردوغان تجاه الإدارات الأمريكية، وامتنع عن زيارة واشنطن منذ 2019 وحتى هذه السنة. لكن أردوغان الآن يقدم لترامب الاقتراح القديم مع زيادة مغرية: بدلاً من الجيش التركي، سوريا هي التي ستنضم إلى التحالف الدولي لمحاربة “داعش”. وقواتها ستحل مكان القوات الكردية، وستقوم أيضاً ببناء معتقلات جديدة لأعضاء “داعش” في الأراضي التي تسيطر الدولة عليها، بدلاً من الموجودة في الإقليم الكردي. هكذا تستطيع أمريكا التنازل أخيراً عن خدمات الأكراد.
إضافة إلى ذلك، تركيا تعرض هذه الخطوة كجزء من خطة أوسع، تجبر الأكراد على الاندماج في الجيش السوري، وهكذا سيتم أيضاً استكمال عملية إخضاع الأقاليم الكردية وقواتها المسلحة للسلطة المركزية. يبدو أن هذه الخطة تخدم الرؤية الاستراتيجية الأمريكية، العربية والدولية، التي تتطلع إلى تأسيس دولة سورية موحدة ذات سلاح شرعي بيد الدولة. ولكنها خطة ستجبر ترامب على التخلي عن حلفائه الأكراد، والاعتماد على الجيش السوري – الذي على الرغم من التدريبات التي اجتازها بتوجيه من تركيا وما زال يعاني من إخفاقات تنظيمية – وفعلياً نقل إدارة السياسة الإقليمية لسوريا إلى يد تركية بصورة شبه كاملة. إلى جانب ذلك، هذه العملية قد تشعل مواجهات عنيفة بين القوات الكردية وقوات الشرع والمليشيات السورية التي تعمل برعاية تركيا في شمال الدولة، وتستأنف الحرب الأهلية على الأقل في بعض محافظات الدولة.
هذه ليست العقبة الوحيدة الموجودة أمام ترامب. إسرائيل التي تسيطر على مناطق في شمال سوريا وغربها، عينت نفسها كراعية للأقلية الدرزية في سوريا، التي تطالب بإقامة حكم ذاتي، وربما أيضاً دولة مستقلة للدروز. في منظومة الأواني المستطرقة التي تعمل في سوريا، التي قد تؤثر فيها التطورات الإقليمية إزاء سوريا على سلوك الأقلية الكردية، فإن التطلع هو التوصل إلى اتفاقات أمنية بين إسرائيل وسوريا. وهذه ستمكن الإدارة الأمريكية من مطالبة إسرائيل بالانسحاب من سوريا كي يتمكن النظام من استكمال سيطرته أيضاً على جنوب الدولة.
بعد أسابيع من المفاوضات المباشرة بين سوريا وإسرائيل، لم يستكمل اتفاق أمني بعد. يسود اعتقاد لدى الولايات المتحدة -وقد عبر عنه أيضاً المبعوث الخاص توم باراك- بأن إسرائيل لا تقلقها الترتيبات الأمنية فحسب، بل رؤية استراتيجية تفضل دولة سورية مقسمة إلى كانتونات، تستطيع فيها إسرائيل الإمساك بأدوات تأثير “إقليمية”، ستحيد أو على الأقل توازن أدوات النفوذ التركية.
من غير الواضح كيف ستحسم الولايات المتحدة هذه القضية، لكن التقرير الذي نشرته “رويترز”، الخميس والذي بحسبه تخطط واشنطن لإقامة قاعدة عسكرية كبيرة قرب دمشق للإشراف على تطبيق الترتيبات الأمنية التي سيتم التوصل إليها بين سوريا وإسرائيل، من شأنه أن يدل على نوايا ترامب. حسب هذا التقرير، “ستدخل الولايات المتحدة إلى الصورة” كما تفعل في قطاع غزة، وستضمن بنفسها تطبيق الترتيبات الأمنية، وهكذا ستحيد تبريرات إسرائيل التي سيطلب منها الانسحاب من معظم المناطق التي احتلتها في سوريا.
إذا نجح ترامب أيضاً في الحصول على تصريح ملزم للانضمام إلى اتفاقات إبراهيم من الشرع، حتى لو لم يحدد فيه موعداً لذلك، فسيصعب على إسرائيل التمسك بوجودها في سوريا. وهكذا سيتم استكمال نشر رعاية تركيا على سوريا، هذه المرة بـ “تصريح” أمريكي. حسب هذه الخطة، يبدو أن الشرع ونتنياهو وأردوغان، سيضطرون إلى تقاسم “محبة ترامب”. إذا كان هذا هو الهدف الذي يريده ترامب، فسيكون من الصعب تجاهل المفارقة: الرئيس الذي حاول التخلي عن التورط المباشر في الشرق الأوسط، وبالأحرى، الإبقاء على موطئ قدم عسكري أمريكي، هو الذي وضع سياسة يجب على الولايات المتحدة -بحسبها- ألا تحارب حروب شعوب أخرى، لكنه يضع نفسه الآن ومرة تلو أخرى في نفس الساحة المشتعلة.
تسفي برئيل
هآرتس 7/11/2025