انسحاب إسرائيل من أراضي لبنان الذي كان يجب أن ينتهي اليوم، لم يخرج إلى حيز التنفيذ في موعده. آلاف السكان الذين أملوا العودة هذا الأسبوع إلى بيوتهم سيبقون في أماكنهم، دون معرفة موعد الضوء الأخضر لعودتهم. تقول إسرائيل إن الجيش اللبناني لم يف بتعهده حسب الاتفاق، ولم يستكمل تفكيك قواعد حزب الله وجمع سلاحه. لبنان يرد بأنه ما دامت إسرائيل موجودة في عشرات القرى جنوبي لبنان، لا يستطيع الجيش اللبناني العمل فيها. والدليل أن الجيش اللبناني جمع الكثير من السلاح ونقله إلى مخازنه في المناطق التي انتشر فيها.
انسحبت إسرائيل من معظم القرى التي احتلتها، لكن التأخير الأخير يثير في لبنان شكاً بنيتها إبقاء عدد من المناطق لفترة طويلة في يدها، التي قد تصبح نقاط احتكاك وذريعة لرد عنيف من قبل حزب الله، ما يستدعي رد إسرائيل. من هنا، المسافة قصيرة لانهيار وقف إطلاق النار. هذا التهديد غير مخفي عن عيون دول الوساطة، خصوصاً الولايات المتحدة وفرنسا، التي تدفع للتوصل إلى موعد جديد متفق عليه وقريب لاستكمال الانسحاب، بالأساس التأكد من أن نية إسرائيل ليست إبقاء أراضي داخل لبنان تحت سيطرتها الدائمة.
انسحاب إسرائيل من أراضي لبنان الذي كان يجب أن ينتهي اليوم، لم يخرج إلى حيز التنفيذ في موعده. آلاف السكان الذين أملوا العودة هذا الأسبوع إلى بيوتهم سيبقون في أماكنهم
تخشى دول الوساطة من أن هذا التواجد الدائم لا يعرض اتفاق وقف إطلاق النار للخطر فحسب، بل سيفشل المرحلة التالية للاتفاق. وحسب هذه المرحلة، قد تبدأ الدولتان في التفاوض حول ترسيم الحدود البرية، وهي العملية التي قد تنهي مرحلة الخلافات الجغرافية بينهما التي تضم 13 نقطة مختلفاً عليها، التي استغلها حزب الله كذريعة للعمل ضد إسرائيل خلال سنوات، بحجة تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي.
يبدو أن حزب الله الذي امتنع عن المواجهة مع الجيش اللبناني، يغير نغمة التهديد اليوم. ففي بداية الأسبوع الماضي، حذر علي فياض، عضو البرلمان من حزب الله، من أن الحزب سينتظر حتى 26 من هذا الشهر (اليوم) الذي يجب على إسرائيل استكمال انسحابها كاملاً حسب الاتفاق. وأضاف أنه “إذا لم يف العدو الإسرائيلي بتعهده، فهذا يعني انهيار تفاهمات تنفيذ الاتفاق وتفجير آلية الضمانات الدولية لتطبيقه… وسيضع هذا الوضع كل اللبنانيين أمام مرحلة جديدة تقتضي فحصاً جديداً بعنوان “المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي بكل الطرق والوسائل لإخراجه من دولتنا. هذه المواجهة من مسؤولية اللبنانيين جميعاً – حكومة، وجيشاً، وشعباً، وأحزاب المقاومة”.
الخميس، نشر حزب الله بياناً جديداً، حذر وأكثر اعتدالاً، يقول إن “أي تجاوز للستين يوماً سيعد خرقاً للاتفاق ومساً بسيادة لبنان، الذي يجب على الدولة مواجهته بكل الطرق والوسائل”. أي أن حزب الله يلقي بالمسؤولية على حكومة لبنان لمواجهة خرق الاتفاق، ولا يضع نفسه بديلاً من الحكومة أو معها في أي مواجهة قد تتطور.
لكن يبدو أن “موقف المراقب” الذي يقف فيه حزب الله، يعرض حكومة لبنان وكأنها تقف في الامتحان، ليس تجاه سكان جنوب لبنان فقط، بل كدولة تعرض نفسها للسخرية، حيث تخرق إسرائيل الاتفاق الذي وقعت عليه بدون أي رد مناسب من قبلها. هذا الموقف يقوي حزب الله كتنظيم وحيد يعرف كيفية مواجهة إسرائيل، والذي يهددها. وهذا الموقف يعرض كل مطالبة بنزع سلاح حزب الله بأنه تهديد للأمن اللبناني، الذي لا تعتبر الحكومة فيه -حسب حزب الله- قادرة على اجتياز امتحان تطبيق حقوقها السيادية.
هذا الامتحان الخطير يأتي في وقت يقوم لبنان بخطواته الأولى قبل تشكيل نظام جديد هدفه إعادة إعمار الدولة وإنقاذها من الأزمة الاقتصادية. انتخاب جوزف عون في هذا الشهر رئيساً بعد سنتين، والموافقة السريعة والاستثنائية على تعيين قاضي محكمة العدل الدولية نواف سلام في منصب رئيس الحكومة الدائمة، هما خطوة أولية ومهمة في المسار السياسي الملغم. ولكنها بعيدة عن خطة عمل قابلة للتنفيذ.
يدير سلام الآن مفاوضات متعرجة حول تشكيل الحكومة، وهي العملية التي كانت تستغرق في السابق بضعة أشهر، لكن الآن بسبب حالة الطوارئ، ربما ينجح في تقليص هذه الفترة. على سلام أن يسوي بين التوق لتأسيس حكومة تكنوقراط، التي حقائبها غير موزعة حسب الطوائف كما هو سائد، وبين ضرورة دفع ثمن سياسي لإرضاء التمثيل الطائفي، ومن ثم منع العقبات المتوقعة أمام خطة تطبيق الإصلاحات الهيكلية. هذه الإصلاحات – منظومة البنوك والبنك المركزي وشركة الكهرباء والشركات الحكومية الأخرى – والتعديلات المطلوبة في التشريع الاقتصادي وأجهزة الرقابة على سلوك الوزارات الحكومية، هي شرط رئيسي للمساعدات، التي أملتها الدول المانحة ومؤسسات التمويل الدولية.
لكن لبنان ليس الوحيد في طابور صناديق الدول المانحة؛ فإسقاط نظام بشار الأسد على يد أحمد الشرع، زعيم هيئة تحرير الشام، جعله شخصاً مرغوباً فيه لدى الدول العربية والغربية، وذخراً استراتيجياً؛ لأنه يعتبر الكابح أمام نفوذ إيران وروسيا في المنطقة. أما غزة فقد يكون بؤرة الجذب القادمة للاستثمارات العربية والدولية، سواء بسبب حجم الدمار الكبير أم لأن إعادة إعمار غزة جزء من اتفاق وقف إطلاق النار وتحرير المخطوفين.
لبنان، رغم تكبده أضراراً تقدر بمبلغ 13 مليار دولار وتهجير حوالي مليون وربع من مواطنيه، لا يعدّ “منطقة كوارث” تقتضي التدخل الدولي السريع. وأهميته الاستراتيجية لا تشبه أهمية سوريا الاستراتيجية. وبشكل متناقض، الضربة التي تكبدها حزب الله حولته من تنظيم أملى السياسة وشكل تهديداً إقليمياً وجر لبنان إلى حرب، إلى تنظيم يحارب الآن من أجل مواقفه السياسية.
لحسن الحظ أن لبنان وسوريا الآن هما بؤرة جذب للسياسة الخارجية للسعودية، التي ترى دعوات للحلول فيها محل إيران، وتريد استغلال هاتين الدولتين كثروة استراتيجية في فضاء تنافس فيه أمام تركيا وقطر. السعودية التي زار وزير خارجيتها فيصل بن فرحان، بيروت الخميس، ثم دمشق، قد تكون أداة الإنقاذ الاقتصادي الأساسية للبنان، لكن أيضاً يوجد لها شروط. اضافة إلى الإصلاحات الاقتصادية التي تضعها كشرط للمساعدات فإنها تضغط الآن لتقليص دور حزب الله في الحكومة اللبنانية الجديدة. إذا وجدت صعوبة، لأسباب سياسية، في إبعاده أو طرده بشكل كامل، فستصر على عدم إعطائه حقائب مهمة أو حقائب قد تساعده في إعادة ترميم مكانته الجماهيرية.
من هنا تتحول الرياض أيضاً إلى لاعب نشط ومهم في جهود إنهاء وجود إسرائيل في لبنان لتحرير الرئيس ورئيس الحكومة والحكومة التي ستشكل من تهديدات حزب الله ومن التحدي السياسي الذي يضعه أمامهم، وإنهاء المنافسة بين الحزب والدولة على إعادة إعمار لبنان. لنجاح هذه العملية، السعودية – اللبنانية، يتعين الآن دعم إسرائيلي يلزمها بتسريع استكمال الانسحاب من لبنان والسماح بانتشار كامل للجيش اللبناني على طول الحدود. لأن من يتوق إلى التطبيع مع السعودية، عليه أن يأخذ في الحسبان طموحاتها الاستراتيجية في المنطقة.
هآرتس