باريس ـ «القدس العربي»: رغم أن عودته إلى البيت الأبيض لم يمرّ عليها سوى بضعة أسابيع، إلا أنها كانت مدّة كافيّة للرئيس الـ47 للولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب لقلب المعادلات الجيوسياسية وخلط الأوراق، من خلال أسلوبه ومواقفه الدبلوماسية التي تقلق الحلفاء قبل الخصوم.
فبعد ثلاثة أسابيع من عودته إلى البيت الأبيض، كسر دونالد ترامب سياسة العزلة التي ظلّت تنتهجها واشنطن والغرب منذ ثلاث سنوات حيال روسيا، مدشّناً صفحة جديدة مع موسكو، من خلال إجرائه يوم 12 شباط/فبراير الماضي لأول مكالمة هاتفية رسمية مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، والتي اتفقا خلالها على العمل معا عن كثب لإحلال السلام بين الروس والأوكرانيين، وعلى أن يبدأ ممثلون عن البلدين على الفور محادثات من أجل تحقيق ذلك. وهو ما حصل بعد ذلك بستة أيام، حيث عقد مسؤولون روس وأمريكيون اجتماعاً لافتاً يوم الثلاثاء 18 شباط/فبراير في العاصمة السعودية الرياض، برئاسة وزيري خارجية البلدين سيرغي لافروف وماركو روبيو، وهو أول لقاء من نوعه على هذا المستوى منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا قبل ثلاث سنوات. اتفق البلدان بعد هذا الاجتماع على مواصلة الجهود لإنهاء الحرب في أوكرانيا، التي مثل الدول الأوروبية، تقلصت إلى وضع المتفرج في المفاوضات حول مستقبلها. واتبعا اجتماع الرياض، باجتماع ثان في القنصلية الأمريكية بإسطنبول يوم الـ27 من شباط/فبراير قاده دبلوماسيون روس وأمريكيون. وكانت هذه الاجتماعات رسالة واضحة وعلنية لأوكرانيا ولحلفاء واشنطن الأوروبيين بأن صفحة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن طويت وتم فتح صفحة جديدة تنسفها تماما من حيث الشكل والمضمون في التعاطي مع الملف الأوكراني.
انتقد الرئيسُ الأوكراني فولوديمير زيلينسكي استبعاد بلاده من المحادثات الرامية إلى وضع حد للحرب فيها، وشاطره الأوروبيون الموقف، مُشددين على «ألا سلام عادلا ومستداما في أوكرانيا من دون مشاركة كييف وحلفائها الأوروبيين في أي مفاوضات بشأنه». وكان احتضان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اجتماعين أوروبيين طارئين في غضون أسبوع خير وأوضح دليل على القلق الأوروبي حيال الوضع الجديد. وفي محاولة للرد بشكل ملموس على النهج أحادي الجانب للرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه الصراع، اتفق الأوروبيون بشكل عام على تعزيز جهود القارة دفاعيا، لكن الانقسام كان سيد الموقف فيما بينهم بشأن مسألة إرسال جنود إلى أوكرانيا لضمان أمنها في حال وقف إطلاق النار، وهو أمر في صلب «الضمانات الأمنية» التي يُطلب منهم تقديمها إلى كييف خلال أيّ مفاوضات مع موسكو.
اعتراضُ الرئيس الأوكراني على عدم دعوة بلاده والأوروبيين للمحادثات الروسية الأمريكية في السعودية، أثار حفيظة ساكن البيت الأبيض القوي الذي وصف فولوديمير زيلينسكي بأنه «غير كفء وتصدر عنه أقوال سخيفة»، وذهب إلى أبعد من ذلك بوصفه بأنه «ديكتاتور». كما اعتبر ترامب أنه «من غير الضروري» حضور زيلينسكي مفاوضات مع روسيا لا يمتلك فيها أي أوراق. وهي تصريحاتٌ قابلها الأخير بالقول إن دونالد ترامب يعيش في «فضاء التضليل الروسي». والحقيقة، أنه خلف هذا السيل من الانتقادات اللاذعة التي وجهها الرئيس الأمريكي إلى نظيره الأوكراني ثمة الاتفاق الذي يطمح إليه ترامب والذي يمنح الولايات المتحدة امتيازات للاستفادة من الموارد المعدنية النادرة لأوكرانيا في معادلة السلام. وكان فولوديمير زيلينسكي قد أعلن في وقت سابق عن رفضه لمسوّدة أولى لهذا الاتفاق، لأنها لا تتضمن ضمانات أمنية لبلاده، معبرا مراراً عن أمله في التوصل إلى ما وصفه «بالاتفاق العادل مع الولايات المتحدة».
الصاعقة الدبلوماسية
وسط هذه المعادلة الجديدة، زار كلٌّ من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر واشنطن، بشكل منفصل، يومي 24 شباط/فبراير و27 شباط/فبراير توالياً، في محاولة لتهدئة النفوس قبل اللقاء المرتقب بين الرئيس الأمريكي ونظيره الأوكراني يوم 28 شباط/فبراير، ولإقناع ترامب بضرورة أن تكون هناك ضمانات لكييف في قلب أي اتفاق سلام محتمل مع روسيا. لكنّ ماكرون ثم ستارمر لم يحصلا على أي شيء يذكر من ترامب، بل إنه اسمعهما على العلن الأسطوانة التي بات يكررها في كل مناسبة بأن «الولايات المتحدة قدمت لأوكرانيا هبات بقيمة 350 مليار دولار، وأنها لم تقدم خلافا للأوروبيين القروض». غير أن الزعيمين الفرنسي والبريطاني فندا هذه المزاعم، وصحّحا مغالطات الرئيس الأمريكي، كل على طريقته، وبهدوء وذكاء ودبلوماسييْن. هذا الذكاء الدبلوماسي هو ما لم يستطع أن يتحلى به بعدهما فولوديمير زيلينسكي في مواجهة استفزازات ترامب، وبدرجة أكبر نائبه جي دي فانس، والذي انتهى بمشادة علنية، غير مسبوقة من نوعها في تاريخ الدبلوماسية الحديثة، حيث اتّهم الرئيس الأمريكي ونائبه الرئيس الأوكراني بأنه «جاحد» حيال الدعم الأمريكي لبلاده، ويرفض التوصل إلى اتفاق سلام. وقال له ترامب: «أنت في الوقت الراهن لست في وضع جيد، ولا تملك أي أوراق».. فرّد عليه زيلينسكي قائلا «نحن لا نلعب بالأوراق».. ليرد الرئيس الأمريكي: «أنت تجازف بأرواح الملايين من البشر، وبجر العالم إلى حرب عالمية ثالثة». وانتهى الاجتماع، من دون أن يتم التوقيع على اتفاقية المعادن التي يسعى إليها ساكن البيت الأبيض، وبإلغاء المؤتمر الصحافي الذي كان مقررا بعد المحادثات، ومطالبة الوفد الأوكراني بمغادرة البيت الأبيض، في مشهد دراماتيكي، نزل على المسؤولين الأوكرانيين والقادة الأوروبيين كالصاعقة.
فكرة «أوروبا للدفاع»
شكل اجتماع لندن الذي انعقد يوم 2 آذار/مارس والذي كان مقررا قبل «واقعة ترامب زيلينسكي»، فرصة للأوروبيين لمحاولة توحيد الصف في مواجهة مواقف الإدارة الأمريكية الجديدة التي تطغي عليها النزعة الفردية إلى حد كبير، مع محاولة تهدئة التوتر في ظل المخاوف من تخلي واشنطن عن كييف بشكل تام، ما سيزيد من العبء عليهم في مواجهة روسيا. وقد أعاد خلط دونالد ترامب للأوراق، أعاد إلى الواجهة مجددا فكرة «أوروبا للدفاع»، التي روج لها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منذ وصوله إلى السلطة قبل ثماني سنوات. وقد تّعهد الأوروبيون، خلال اجتماعهم في لندن، بزيادة الانفاق الدفاعي في بلدانهم والعمل على تشكيل تحالف قادر على الدفاع عن أي هدنة في أوكرانيا. وقد سبق أن عبرت فرنسا وبريطانيا عن استعدادهما لنشر قوات حفظ سلام للمساعدة في تطبيق أي اتفاق لوقف إطلاق النار. وحذت حذوهما دول أوروبية أخرى. لكن، بشكل عام، يبقى الانقسام سيد الموقف بشأن هذه الفكرة، التي أبدت الولايات المتحدة مرونة حيالها. لم يأبه ترامب باجتماع حلفاء كييف في لندن، لاسيما الأوروبيون، ومخرجاته، فنفّذ غداته تهديده بتجميد المساعدات العسكرية الحيوية التي تقدمها واشنطن لأوكرانيا، فيما يعد ضربة جديدة، جعلت الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، يغير من لهجته، داعيا إلى هدنة مع روسيا لبدء محادثات حول سلام دائم في ظل ما وصفها بالقيادة القوية لدونالد ترامب، الذي قال إنه يريد «تصحيح الأمور» معه، معبراً عن استعداده الفوري لتوقيع اتفاق إطاري مع الولايات المتحدة بشأن استغلال الموارد الطبيعية الأوكرانية. وشدد على أن كييف «ممتنة جدا» لواشنطن على مساعدتها العسكرية، في فُهم منه أنه رد على اتهام الرئيس الأمريكي ونائبه له بـ«الجحود» تجاه الولايات المتحدة خلال الملاسنة الدراماتيكية في المكتب البيضاوي. وأعلن مسؤولون في البلدين أن موفدين منهما سيجتمعون في السعودية، التي أعلن الرئيس الأوكراني أنه سيتوجه إليها يوم الإثنين، بعد أن كان قد ألغى زيارة لها على خلفية الاجتماع الذي احتضنه بين وزيري الخارجية الأمريكي والروسي في 18 شباط/فبراير الماضي.
إعادة التسلح
على وقع تجميد المساعدات الأمريكية لأوكرانيا، أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين عن خطة ضخمة من خمسة أجزاء أو مقترحات لحشد نحو 800 مليار يورو للدفاع الأوروبي، وتتيح تقديم دعم عسكري «فوري» لأوكرانيا، مُحذرة من مغبة أن «مستقبل أوكرانيا حرة ذات سيادة وأوروبا آمنة ومزدهرة، على المحك»، ومن أن «أوروبا تواجه خطرا واضحا وحاضرا بحجم لم يشهد أي منا مثله في حياتنا». يتمثل الجزء الأول من هذه الخطة التي وافق عليها قادة الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، في ختام قمة استثنائية ببروكسل مساء يوم الخميس الـ 6 من آذار/مارس، تعليق الاتحاد الأوروبي قواعد الموازنة المتشددة للسماح لدوله الأعضاء بزيادة إنفاقها على الدفاع بشكل كبير من دون إجبار الحكومات على خفض مستويات العجز لديها حال خرقها القواعد، وفق أورسولا فون دير لايين. أما الجزء الثاني من الخطة، فيتعلق بأداة جديدة توفر قروضا بقيمة 150 مليار دولار للدول الأعضاء للاستثمار في مجال الدفاع. وهنا، أوضحت رئيسة المفوضية الأوروبية أن الأمر يتعلق أساسا بالإنفاق الجماعي بشكل أفضل في مجالات الدفاع الجوي والصاروخي وأنظمة المدفعية والصواريخ ومسيرات الذخيرة والأنظمة المضادة للمسيرات، وهو ما سيسمح، بحسبها، بتكثيف الدعم لأوكرانيا. في حين، يشمل الجزء الثالث استخدام ميزانية الاتحاد الأوروبي الحالية «لتخصيص مزيد من التمويل للاستثمارات المرتبطة بالدفاع»، بما في ذلك السّماح للدول الأعضاء بإعادة توظيف ما يسمى بصناديق «التماسك» الهادفة للمساعدة في تنمية الدول الأوروبية الأكثر فقرا واستخدامها في الدفاع. أما الجزء الرابع والخامس من الخطة فيتعلقان ببنك الاستثمار الأوروبي، الذي يعتبر ذراع الإقراض في الاتحاد الأوروبي، والذي تطالبه بلدان أوروبية بالتخلي عن السقف المحدد لإقراض شركات الدفاع، ثم اتحاد للمدخرات والاستثمارات يساعد الشركات من أجل الوصول إلى رؤوس الأموال. تعهد الاتحاد الأوروبي في ختام قمة يوم الخميس ببروكسل تقديم حوالي 30 مليار يورو لأوكرانيا خلال العام 2025، ولا ترى دول عدة ضرورة لزيادة هذا المبلغ في الوقت الحاضر. وفي هذا الإطار، تنوي النروج زيادة مساعدتها لأوكرانيا في 2025 بمعدّل 4.2 مليار يورو لترفعها إلى 7.2 مليار يورو. لكن ثمة انقساما أوروبيا حيال سبل التحرك. وفي هذا السياق، حذر رئيس الوزراء المجري القومي فيكتور أوربان المؤيد لترامب، من أي مقررات خطية بشأن أوكرانيا في نهاية القمة، في موقف يهدد بكشف الانقسامات بين الأوروبيين في العلن. في خطوات أقوى تعكس التّوجه الجديد للبلدان الأوروبية، قررت ألمانيا استثمار مبالغ طائلة في قدراتها العسكرية، ودعت من أجل ذلك إلى إصلاح قواعد الميزانية الأوروبية المتشددة، في تحول لم يكن ممكنا تصوره. ودعت برلين إلى تخفيف قواعد الإنفاق الصارمة في الاتحاد الأوروبي للسماح للدول الأعضاء بالاستثمار بشكل أكبر في مجال الدفاع على المدى الطويل، ويأتي هذا بعد أن تعهد المستشار الألماني المقبل المحتمل فريدريش ميرتس هذا الأسبوع بإنفاق مليارات اليوروهات الإضافية على الدفاع والبنى التحتية. واستجابة لطلب فريدريش ميرتس، المرشح المحتمل لمنصب المستشار الألماني، بفتح حوار حول مشاركة الأسلحة النووية الفرنسية والبريطانية في حماية أوروبا، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عزمه «فتح نقاش استراتيجي» بشأن حماية أوروبا بواسطة المظلة النووية الفرنسية، مشددا على أن «التهديد الروسي قائم ويؤثر على دول أوروبا». واعتبر رئيس الحكومة البولندية دونالد توسك أن هذا المقترح هو «واعد جدّا». فيما رأت روسيا أنه يشكل «تهديدا» لها. وشدد الرئيس الفرنسي على أنه «أمام هذا العالم المليء بالخطر فإن بقاء المرء متفرجا سيكون بمثابة جنون». ومن المقرر أن تستضيف فرنسا هذا الأسبوع اجتماعا لرؤساء أركان «الدول المستعدة لضمان سلام مستقبلي في أوكرانيا»، كما أعلن الرئيس الفرنسي، معتبراً أن السلام في أوكرانيا «قد يفترض أيضا نشر قوات أوروبية».