غزة – “القدس العربي”:
عاشت غزة أجواء مرعبة في يوم العيد، ووُضع أطفال ونساء ورجال سقطوا شهداء في هجمات إسرائيلية، في أكفان بيضاء، بدلا من ارتداء الملابس الجديدة، وبدلا من التهاني المعتادة وزيارات العيد. وعاش السكان وفي مقدمتهم مئات آلاف النازحين في ترقب وخوف من قادم الأيام.
وبدلا من تكبيرات العيد المعتادة، التي كانت تصدح من مكبرات المساجد منذ الساعات الأولى لفجر العيد، علت أصوات القصف الجوي المدفعي الإسرائيلي، حيث ضربت الغارات التي يشنها جيش الاحتلال العديد من مناطق قطاع غزة، وأوقعت ضحايا بينهم أطفال، ومن ضمنهم أولئك الأطفال الذين سقطوا في خيمة نزوح أسرتهم غرب مدينة خانيونس، وقد انتشرت صورهم وهم مضرجين بالدماء.
وظهرت طفلتان شقيقتان سقطتا في اغارة على خيمة النزوح، في صور تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي، وهن يرتدين ملابس جديدة، وقد تغير لون الثياب من الدماء التي نزفت من أجسادهن. وفي ظهرت طفلة قبل انتشالها من تحت ركام الخيمة، بجوارها والدها الذي استشهد في الغارة، وهو يمد يده إليها، وفيها نقودا “العيدية”. وتناثرت في المكان قطع الحلوى والبسكويت الذين كانت تلك العائلة التي أبيدت تناولها في العيد.
ولم يأمن الكثير من المواطنين ترك مناطق سكنهم، والذهاب إلى المساجد لأداء صلاة العيد، وزيارة الأهل، بعد أن اختارت إسرائيل استمرار التصعيد الدامي ضد غزة، ورفضها حتى اللحظة كل وساطات التهدئة.
وهذا العيد الثالث على التولي، الذي تقضيه عائلة محمد نعيم وهي في خيمة نزوح، لكن هذه المرة كانت في مدينة غزة، بعد أن عاشت رحلات نزوح سابقة. حل عليها عيد الفطر الأول منذ بدء العدوان الإسرائيلي وهي في مدينة رفح، فيما حل عليها العيد الثاني “الأضحى”، وهي في مواصي خانيونس، واليوم يقول رب الأسرة لـ القدس العربي، إن الأمر لم يتغير، ويضيف “الخيمة هي الخيمة، والنزوح متشابه”.
وقد جلس هذا الرجل برفقه إخوانه ووالده الذين اختاروا مكانا واحدا لنزوحهم، أمام خيامهم غرب مدينة غزة، ومن حولهم صغار الأسرة، يلهون في منطقة ضيقة، لكن دون أن يرتدي أي من أطفالهم ملابس جديدة للعيد. ويضيف “ما في أي شكل من أشكال العيد المعتادة، صحينا على أصوات قصف وأخبار مجازر”. ويوضح أن اهتمامه كباقي أرباب الأسر، انصب على كيفية تدبير طعام للأسرة بما توفر بين يديه من نقود، بسبب ارتفاع الأثمان وشح هذه السلع التموينية من الأسواق بسبب الحصار الإسرائيلي، بدلا من شراء ملابس جديدة لأطفاله في العيد.
وهذا الرجل من سكان بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، وقد اضطر للنزوح بعد عودة إسرائيل لاستئناف الهجمات الحربية الدامية ضد قطاع غزة، بدايات الشهر، بعد أن عاد إلى بلدته في بدايات التهدئة السابقة التي بدأ تنفيذها يوم 19 يناير، حيث كان من ضمن مئات آلاف المواطنين الذين تركوا شمال القطاع ونزحوا لمناطق الجنوب في بدايات الحرب، بسبب تهديدات إسرائيلية.
ترقب وخوف
وخلال حديثه تدخل أحد أشقاؤه وقال “الكل في ترقب، مش عارفين شو بدو يصير”، وأضاف “ممكن ننزح من جديد للجنوب”، وعبر عن خوفه على مستقبل أسرته وأطفالها الصغار، الذين قال إنهم “ضحايا الحرب”، وقال إنه كان يأمل في التوصل إلى تهدئة توقف الحرب والمجازر قبل حلول العيد، وأضاف بحزن “مش مكتوب لأهل غزة الفرح”.
وتعيش مناطق شمال قطاع غزة ظروف غاية في الصعوبة بعد تجدد الحرب، وخاصة بلدات بيت حانون وبيت لاهيا وجباليا، التي هدد جيش الاحتلال سكانها بالنزوح القسري، منذ بدايات عودة الحرب، وبشكل يومي يقوم بشن هجمات عنيفة على تلك المناطق، بعد أن دفع بأرتال من الدبابات والآليات العسكرية لبيت حانون، بعد إجبار سكانها الذين عادوا إليها مؤخرا على النزوح القسري.
وحتى الأسبوع الماضي، أعلنت الأمم المتحدة أن أكثر من 200 ألف فلسطيني من سكان القطاع، أجبروا على النزوح من أماكن سكنهم، يضافوا إلى عدد آخر كبير كان يقيم في مناطق النزوح حتى وقت التهدئة، ومن المرجح أن يزداد العدد في ظل توسيع الاحتلال للعمليات الحربية البرية.
وعلى عجل زار إبراهيم قاسم بعضا من جيرانه في حي النصر شمال مدينة غزة، وعبر هذا الرجل وهو في نهايات العقد الرابع، عن خشيته من قادم الأيام، فالظروف التي يعشها قطاع غزة، بعد استئناف الحرب خطيرة للغاية، فالقصف الجوي والمدفعي لم يهدأ ليوم واحد.
ويقول لـ “القدس العربي” إنه لم يقدر على زيارة أقارب له من الدرجة الأولى وبينهم شقيقاته اللواتي يقطن أماكن بعيدة، بسبب الظروف، فالقصف المستمر حرمه كما آخرين كثر من طقوس العيد، ويقول إن ابنه الأصغر ذو الـ 14 عاما، ارتدى قميصا كان قد اشتراه له قبل أسابيع، في هذا اليوم، ليعيش شيئا من أجواء الفرح، لكن هذا الرجل أشار إلى السماء الملبدة بطائرات استطلاعية تصدر أصوات أزيز تثير دوما مخاوف السكان من القادم، وقال “طالما هذه الطائرات بتحلق فوقنا وبنسمع كل شوي أصوات قصف، ما حد في غزة بأمان”.
المنتزهات تحولت لمراكز إيواء
وعلى خلاف عادات وطقوس العيد، لم تكن هناك ذات الحركة المعتادة للأطفال الذين كانوا يهتمون باللعب في الشوارع، والذهاب إلى أماكن التنزه والترفيه، والتي تنصب فيها الأرجوحات، فالكثير من هذه الأماكن وهي عبارة إما عن منتزهات أو ساحات، تحولت لمناطق نصبت فيها خيام النازحين.
ومن أشهر تلك المناطق التي كانت تشهد احتفالات العيد وطقوس الفرح، هي ساحة الجندي المجهول غرب مدينة غزة، وهي عبارة عن ساحة كبيرة مزروعة بأشجار الزينة، وهذه المنطقة التي جرفتها قوات الاحتلال في أحد الاجتياحات السابقة للمدينة، وقد تحولت حاليا إلى منطقة خيام لإقامة النازحين، وخلت منها كل أشكال البهجة والفرح، فسكانها يقاسون كثيرا لتدبير أمور حياتهم على مدار الساعة.
وبجوار أحد خيام النزوح جلس طفلا يدعى عمرو (12 عاما) ويقيم مع عائلته في ذلك المكان، وعندما طلبنا منه التحدث عن مشاعره في هذا اليوم قال “زمان قبل الحرب كنا بنلعب في هذه الساحة في العيد”، واستذكر جملة ألعاب كان يستمتع بها، ومن ضمنها ركب دراجة نارية صغيرة، واللهو في محل ألعاب الكترونية قريب، وقال “الآن ما في مكان للناس تسكن، كل المكان صار خيام، ومش عارفين لا نعلب ولا نفرح”، واستذكر عمرو أقارب وأصدقاء له من جيله، قضوا في هذه الحرب، وقد أشار إلى أنه لم يشتري كما الأعياد السابقة ملابس جديدة، بحكم ارتفاع أثمانها، وعدم قدرة والده على ذلك.
وبدلا من طقوس العيد المعتادة، والقائمة على زيارات الأهل بالمقام الأول، اهتم عبد الله عواد، بمتابعة احتياجات أسرته، وأشغل نارا على موقد الحطب، وساعد زوجته في طهي ما توفر من طعام أولا، ومن ثم تجهيز الخبز، كما روى لـ “القدس العربي”. وهذا الرجل عانى خلال الحصار المشدد السابق على مناطق شمال قطاع غزة، وتنقل في رحلات نزوح مريرة خلال فترة الحرب، حين كان يضطر وعائلته لترك منزلهم لأسابيع بسبب الهجمات على مناطق مدينة غزة الغربية.
ويعتبر الحصار الحالي المفروض على قطاع غزة منذ بداية الشهر الجاري، هو الأطول منذ بدء الحرب الإسرائيلية ضد القطاع، في السابع من أكتوبر 2023، حسب ما أعلنت الأمم المتحدة، وهو ما أثر سلبا على أوضاع السكان. وحذر برنامج الأغذية العالمي من أن الآلاف من سكان غزة يواجهون مجددا خطر الجوع الحاد وسوء التغذية مع تناقص مخزونات الغذاء في القطاع وإغلاق المعابر أمام المساعدات، أما مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية “أوتشا”، فقد أكد أن كل شيء في غزة ينفد “الإمدادات والوقت والحياة”. وأكد أن المساحة اللازمة لبقاء العائلات على قيد الحياة تتقلص مع إصدار أوامر تهجير إسرائيلية جديدة يوميا.