لندن- “القدس العربي”:
تنفذ قوات الدعم السريع وميليشياتها عمليات قتل جماعي على أساس عرقي في الفاشر، وفقًا لشهادات الناجين لـ”واشنطن بوست”.
وذكرت الصحيفة أن قوات الدعم السريع وميليشياتها نفّذت مجازر جماعية على أساس عرقي في مدينة الفاشر بدارفور، حيث أُطلقت النار على عائلات وفرُّقت بغير رحمة وخُطف أطباء مطالبين بفديات، وفق شهادات ناجين وصور بالأقمار الصناعية. وأشارت الصحيفة إلى اتساع الغضب الدولي ودعوات لتصنيف قوات الدعم السريع كمنظمة إرهابية، مع تحميل دول داعمة للصراع مسؤولية تفاقم الأزمة.
وتوضح الصحيفة أن عائلات أُطلقت عليها النار وهي تتجمع طلبًا للأمان. أطفال يبكون بجوار جثمان أمهم في الصحراء. أطباء يُختطفون مقابل فدية ثم يُعدمون.
هذه بعض القصص التي بدأت تتسرب من مدينة الفاشر في دارفور، التي سقطت الأحد الماضي في أيدي قوات الدعم السريع (RSF). لا يزال معظم من بقي داخل المدينة خارج نطاق الاتصال، ولم يتمكن سوى عدد قليل من الناجين المصدومين من الفرار وسرد ما شهدوه من فظائع.
لم يتمكن سوى عدد قليل من الناجين المصدومين من الفرار وسرد ما شهدوه من فظائع
اندلعت الحرب الأهلية في السودان عام 2023 إثر صراعٍ على السلطة بين قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان. وسرعان ما تحوّلت إلى نزاعٍ إقليمي معقّد تشارك فيه قوى دولية وإقليمية: فالإمارات تدعم قوات الدعم السريع بالمال والسلاح، بينما يتلقى الجيش السوداني دعمًا من إيران وتركيا وروسيا.
واليوم، دخلت الحرب التي حصدت مئات الآلاف من الأرواح إحدى أكثر مراحلها دمويةً وظلامًا.
تحدثت واشنطن بوست إلى تسعة شهود — مدنيين وأطباء وعمال إغاثة ومقاتلين — من داخل الفاشر ومحيطها. وروى هؤلاء شهاداتٍ مروّعة عن حملة منظمة من القتل الجماعي وأخذ الرهائن، نفذتها قوات الدعم السريع وميليشيات حليفة لها على أسس عرقية واضحة.
ومع تصاعد الغضب الدولي، اضطر حميدتي إلى الاعتراف بـ”تجاوزات” داخل قواته. وفي يوم الخميس الماضي، نشرت قوات الدعم السريع مقطع فيديو يظهر اعتقال أحد قادتها، بعد أن ظهر سابقًا وهو يسخر من مدنيين قبل إعدامهم جماعيًا.
الولايات المتحدة فرضت عقوبات على حميدتي وعددٍ من قادة قواته، وكذلك على قادة في الجيش السوداني، على خلفية اتهامات بارتكاب جرائم حرب. كما دعا ستة أعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي، من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، إدارة ترامب إلى تصنيف قوات الدعم السريع “منظمة إرهابية أجنبية” أو “كيانًا إرهابيًا عالميًا خاصًا”، في ضوء ما وصفوه بـ”الإبادة الجماعية الجارية في دارفور”.
وانتقد البيان الإمارات — الحليف الوثيق لواشنطن — قائلًا إن “الداعمين الأجانب لقوات الدعم السريع والجيش السوداني، بمن فيهم الإمارات وروسيا وإيران والصين وبعض حكومات المنطقة، غذّوا الصراع واستفادوا منه وشرعنوا الوحوش التي تدمر السودان”.
“الموت في كل مكان”
كما أفاد تقرير صادر عن مختبر الأبحاث الإنسانية بجامعة ييل أن صور الأقمار الصناعية لمستشفى الأطفال في الفاشر — الذي استخدمه عناصر الدعم السريع كمركز احتجاز — والمستشفى السعودي المجاور، تُظهر أدلةً على وقوع مجازر خلال الأسبوع الماضي.
وبحسب منظمة الصحة العالمية، قُتل نحو 460 شخصًا داخل المستشفى السعودي وحده.
قال طبيبٌ كان يعمل في قسم الولادة إنه احتُجز الأحد على يد عناصر الدعم السريع، وأُفرج عنه الأربعاء بعد دفع فدية قدرها 50 ألف دولار.
وأضاف بصوتٍ متهدّج: “رأيت ما لا يمكن وصفه… أرجو فقط أن تساعدوا في إطلاق سراح زملائي. من لا يدفع يُقتل”.
وأكد أحد مقاتلي الدعم السريع للصحيفة أن بعض الأطباء المختطفين نُقلوا إلى مدينة نيالا، فيما أُعدم آخرون إلى جانب مدنيين.
“المدينة كانت في فوضى تامة. مقاتلون من مناطق مختلفة، لا أحد يضبطهم”، قال أحد قادة الدعم السريع، مضيفًا أن العصابات المسلحة “ستنهب المدينة لشهرٍ كامل”.
“المدينة كانت في فوضى تامة. مقاتلون من مناطق مختلفة، لا أحد يضبطهم”، والعصابات المسلحة “ستنهب المدينة لشهرٍ كامل”
وقال عامل إغاثة تحدث إلى أكثر من مئة شخص فروا إلى بلدة تِوِيلة المجاورة: “القصص مروّعة. أحدهم تحدث عن ثلاثة أطفال دون الرابعة يبكون حول جثة أمهم. آخر قال إن مدنيين أُطلقت عليهم النار أثناء الفرار، وإنك ترى جثة كل عشرة أمتار”.
أعربت منظمات الإغاثة عن قلق بالغ من قلة عدد الناجين الذين تمكنوا من الوصول إلى طويلة. فبحسب ماثيلد فو من المجلس النرويجي للاجئين، كان في الفاشر نحو 260 ألف شخص عند اقتحامها، لكن أقل من 5 آلاف وصلوا إلى البلدة.
“يقول الناس إن الجثث تملأ الطرق، وإن رائحة الموت تخنق الهواء. كثيرون وصلوا ومعهم أطفال ليسوا أبناءهم، لأن ذويهم قُتلوا في الطريق”، قالت فو.
“كلمة واحدة تصف ما حدث: إبادة”
روى أحد الناجين أن الحصار الذي فرضته قوات الدعم السريع على الفاشر لأكثر من 18 شهرًا جعله هزيلًا إلى درجةٍ بدت عليه الشيخوخة، وربما أنقذه ذلك من القتل.
قال إن مئات العائلات لجأت إلى جامعة الفاشر لأنها كانت أكثر صلابة من البيوت الطينية، لكن القصف بالطائرات المُسيّرة أعقبه هجومٌ بالأسلحة النارية: “قُتل أكثر من 200 شخص في لحظات. الدماء في كل مكان. إذا كان هناك وصف لما حدث، فهو الإبادة”.
أظهرت لقطات موثقة من الجامعة ممراتٍ تغطيها الجثث، ومسلحين بزي الدعم السريع يطلقون النار على الجرحى للتأكد من موتهم.
هرب الرجل مع قريبه ونحو 15 امرأة وطفلًا نحو تلة خلف الجامعة، لكن المقاتلين كانوا بانتظارهم.
“نهبوا النساء، أخذوا المال والهواتف، ثم أطلقوا النار”.
قال إنه أُفرج عنه لاحقًا مع خمسة رجال فقط لأن مظهرهم المسن جعلهم يُعتبرون غير خطرين. “في كل قرية وعلى كل طريق، كانت الجثث منتشرة”.
بعد يومين وصل إلى طويلة، وهناك التقى قريبه الذي ظنه ميتًا — ووجده مصابًا في الرأس وغير قادر على الكلام. وأكد عامل إغاثة وجوده بين الجرحى في المخيم.
“قالوا: هؤلاء عبيد ويجب أن يُقتلوا”. ووصف شاهدٌ آخر فراره من الفاشر وسط القتال، ضمن مجموعة تضم نحو 600 مدني بينهم أطفال. قال إن جنود الدعم السريع أطلقوا النار على المجموعة فقتلوا خمسة أشخاص وشتّتوها.
ثم اقترب قائد من القوات وأمرهم بالهتاف: “قوات الدعم السريع فوقنا! حميدتي فوقنا!”.
لكن قبل أن يتحركوا، اندفعت مركبة مصفحة وسحقت من في طريقها. “ظل القائد يصرخ: هؤلاء مدنيون، لا تقتلوهم! لكنهم تجاهلوه. قُتل 18 شخصًا بينهم ابنة عمي”.
وأضاف أن بعض المقاتلين هتفوا: “هؤلاء عبيد، يجب أن يُقتلوا!”، قبل أن يفتحوا النار مجددًا.
في النهاية، اقتادتهم قوات الدعم السريع إلى مخيم زمزم، الذي كان يضم نحو نصف مليون نازح قبل أن تسيطر عليه تلك القوات في أبريل وتنفذ داخله مجازر بحق المدنيين وعمال الإغاثة.
“عندما وصلنا، كان هناك نحو 20 رجلًا يُعدمون. أول من أطلق النار طفل في الثانية عشرة يرتدي زي الدعم السريع”.
احتُجزت المجموعة في مكانٍ سمّاه المسلحون “السجن”، وأُبلغوا بأنهم سيُستخدمون لطلب فدية من عائلاتهم عبر جهاز ستارلينك.
طالب المسلحون أولًا بمبلغ 28 ألف دولار عن كل رهينة، ثم خُفّض المبلغ إلى 14 ألفًا بعد المساومة.
“اتصلت بعائلتي وهم بجانبي، قالوا لهم إنهم سيقتلونني إن لم يدفعوا فورًا. أرسلوا المال، فأطلقوا سراحي. لكن أربعة آخرين لم يستطيعوا الدفع… ولا أعلم ما حلّ بهم”.
تاريخ يعيد نفسه
في دارفور، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه. قبل عشرين عامًا، ارتكبت ميليشيات عربية — كانت تُعرف آنذاك بـ”الجنجويد” — مجازر بحق القرى الإفريقية في حملة إبادة مروّعة. واليوم، كما يقول الناجون، تتكرر الإبادة نفسها بأسماء جديدة وسلاح أحدث، بينما يظل العالم يتفرج.