جبلة: جثت نسرين عز الدين بأسى بجوار ثلاثة قبور في حديقة منزلها، رُصفت حولها الحجارة، ووضعت عليها أعواد البخور والورود الذابلة، حيث يرقد ابنها وزوجها وابن شقيقته، الذين قتلهم مسلحون “أجانب”، في منطقة يقطنها علويون في غرب سوريا.
في مطلع كانون الثاني/يناير، توجّه زوجُها عمّار وابنهما موسى، وابن شقيقة الزوج محمد، على متن دراجة نارية إلى حقل زيتون قرب قرية عين الشرقية، في المنطقة الساحلية ذات الغالبية العلوية التي انتمى إليها الرئيس المخلوع بشار الأسد.
غير بعيد عن الحقل، كان هناك مسلحون، تؤكد عز الدين (48 عامًا) لوكالة فرانس برس أنهم “من فصائل متشددة، أجانب لا نعرف من أين أتوا، ملثمون”.
وتتابع السيدة النحيلة، وقد غلبتها الدموع: “صار إطلاق نار كثيف عليهم”.
بصوت خافت، تشير عز الدين إلى أن زوجها كان موظفًا في القطاع العام، بينما لم يتجاوز ابنها وقريبه الثامنة عشرة من العمر. تضيف: “كانا في السنة الأخيرة من البكالوريا (الثانوية العامة)”.
عقب إسقاط الأسد، في الثامن من كانون الأول/ديسمبر، يؤكد علويون تعرّضهم لاعتداءات ذات خلفية دينية.
من جهتها، تعمل السلطات الجديدة، بقيادة “هيئة تحرير الشام”، ذات التوجه الإسلامي، على محاولة طمأنة الأقليات، وتدين أعمالًا “إجرامية” و”خارجين عن القانون”، متعهدة بملاحقة المرتكبين.
نقطة تفتيش عند مدخل جبلة. 28 يناير 2025. ا ف ب
رغم ذلك، لا تزال عز الدين وعائلتها تنتظر معرفة من قتل أحباءها.
خشية من الانتقام
يبلغ تعداد العلويين نحو 1.7 مليون نسمة، ويشكّلون نحو تسعة في المئة من سكان سوريا ذات الغالبية السنية. وعلى مدى العقود الماضية، في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد ونجله بشار، اعتُبِر العلويون ركيزة أساسية للحكم، وحضروا في مراكز مؤثرة في القطاع العام والمؤسسات العسكرية والأمنية، التي لطالما اعتمدت الاعتقال والتعذيب والترهيب أساليب لقمع أي معارضة.
في المنزل المتواضع لعز الدين، تجمّع أفراد من العائلة في غرفة المعيشة المطلة على الحديقة. ورغم تأكيدهم أن بعض أقاربهم كانوا عسكريين سابقًا، مثل كثيرين من أبناء الساحل، فإنهم يشددون على أن الضحايا لم تكن لهم أي علاقة بذلك.
ويؤكد أفراد من العائلة أن السلطات فتحت تحقيقًا، دون أن تُعرف نتائجه حتى الآن.
ويوضح علي إسماعيل (30 عامًا): “تلقينا وعودًا بأنه ستتم ملاحقتهم ومحاسبتهم، لكن لم نرَ أي شيء، ولا أي خطوة جبّارة”.
تنميط واستهداف
بعد سقوط الأسد، اختار إسماعيل، وهو مهندس كهرباء، أن يترك حلب، كبرى مدن شمال سوريا، حيث كان يقيم منذ عشرة أعوام، ويعود إلى المناطق الساحلية في غرب البلاد، حيث يتركز العلويون.
وكما هو حال كثيرين، خشي إسماعيل أن يتعرّض لاعتداءات انتقامية بسبب الربط بين العلويين والنظام، حتى لو لم يكونوا من مناصريه.
ويوضح: “في أي منطقة، في أي مدينة، تعرّضت الطائفة العلوية لما يشبه هجومًا من الاتهامات: أنت علوي، إذن أنت مع النظام… أنت علوي، إذن أنت مجرم كنت تقاتل مع بشار الأسد”.
خلال الأسابيع الماضية، أعلنت السلطات الجديدة تنفيذ حملات أمنية لملاحقة “فلول النظام” السابق، شملت مناطق يقطنها علويون، خصوصًا في وسط البلاد وغربها، حيث أُوقف اثنان من كبار المسؤولين الأمنيين السابقين.
عند مدخل مدينة جبلة ذات الغالبية العلوية، قرب الساحل، يقيم عناصر أمن ملثمون بزيهم الأسود حاجزًا تعرض، في أواخر كانون الثاني/يناير، لإطلاق نار، ما أسفر عن مقتل شخصين وإصابة ثلاثة آخرين.
ويقول مسؤول إدارة الأمن العام في المنطقة، أحمد عبد الرحمن، إن من يقف خلف الهجوم هم عناصر “كانوا ضمن صفوف النظام أو يتبعون لميليشياته”. مضيفًا: “هذه شخصيات تعرف أنها ستحاكم بسبب الجرائم التي ارتكبتها، فدائمًا تسعى لزعزعة الأمن وبث الفوضى وعدم الاستقرار”.
القضاء على العيش المشترك
منذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر، أحصى المرصد السوري لحقوق الإنسان أكثر من 240 حالة “إعدام وأعمال انتقام”، خصوصًا في محافظتي حمص وحماة.
وقال الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، في مقابلة بُثّت الإثنين، إن النظام السابق عمل “على تقسيم المجتمع، من خلال الاعتماد على فئات معينة ضد فئات أخرى”، معتبرًا أن ذلك جعل “احتمالية حصول حرب أهلية وعمليات انتقام كبيرة جدًا” أمرًا ممكنًا.
وشدد على أن “الدولة هي الضمانة لكل الطوائف”، وأن السلم الأهلي “ليس رفاهية اليوم في سوريا، بل هو واجب على السوريين”.
في بلدة سلحب، غرب محافظة حماة، يحتسي رجال القهوة على هامش مراسم تشييع أشخاص قُتلوا بإطلاق نار من مسلحين في قرية العنز بشرق المحافظة.
ويقول علي الشحود إن هؤلاء، وهم “سوريون يتحدثون بلهجة حموية”، جالوا على منازل يقطنها علويون، وأخرجوا منها نحو 15 شابًا، ثم “أطلقوا النار عليهم عشوائيًا… أمام النساء والأطفال”.
قُتل خمسة وأُصيب خمسة آخرون، بينهم الشحود الذي أُصيب في الكتف والساق، لكنه خسر شقيقه، وابنه البالغ 15 عامًا، ووالده (75 عامًا)، وعمه الثمانيني.
ويقول رجب المحمد، وهو من سكان القرية، إن المسلحين سرقوا الهواتف النقالة بهدف “التغطية على ما قاموا به، لكي يُقال إنهم سارقون، وليس إنهم أطلقوا النار علينا لأننا علويون”.
وينفي المحمد أي ارتباط بالأجهزة العسكرية والأمنية للأسد، موضحًا: “لا يوجد لدينا سلاح… لو كان لدينا، لما تركت أبي وأخي وابني يُقتلون”.
العلويون ومخاوف التهجير
بعدما أقاموا فيها لفترات طويلة، اضطر العديد من العلويين لترك بلدات في محافظات مختلطة طائفيًا، مثل حمص وحماة، خوفًا من أعمال انتقامية.
من بين هؤلاء، سكان قرية الزغبة في شرق محافظة حمص، مثل علي المحمد، المسؤول البلدي السابق، الذي انتقل إلى سلحب.
ويقول المحمد لوكالة فرانس برس: “حمص وحماة هما المحافظتان الأكثر تنوعًا طائفيًا… هذه المشاكل تحصل من أجل القضاء على فكرة العيش المشترك”.
(أ ف ب)