بغداد/ تميم الحسين
قررت أنقرة – على ما يبدو – استمرار بقاء القوات والمعسكرات التركية في العراق، الموجودة دون موافقة بغداد، لـ10 سنوات أُخرى على الأقل.
وهاجم سياسيون ومراقبون ومدوِّنون ما وصفته بغداد بـ”الاتفاق التاريخي” مع تركيا لإدارة المياه التي تعاني نقصًا غير مسبوق.
وسيدفع العراق، وفق الاتفاقية الجديدة، أثمانًا إضافية لتركيا من الأمن والنفط والديون، وهو ما نفته حكومة بغداد.
وأعلن العراق وتركيا، يوم الأحد الماضي، التوصل إلى اتفاق تاريخي لتنظيم ملف المياه بين البلدين.
وأكد نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية فؤاد حسين، في مؤتمرٍ صحفيٍّ عقده مع نظيره التركي هاكان فيدان، الذي زار بغداد الأحد، أنه “سيتم التوقيع على وثيقة اتفاق بين العراق وتركيا لتنظيم العلاقات بين البلدين في إدارة وتنظيم ملف المياه، وهي الأولى من نوعها في تاريخ العلاقات بين البلدين”.
وأضاف أن هذه الاتفاقية هي “حصيلة مباحثاتٍ جرت بين البلدين في أنقرة مؤخرًا، ووصلنا إلى تفاهماتٍ تمت ترجمتها إلى اتفاقٍ تاريخيٍّ بين البلدين”.
10 سنوات إضافية
وتحتفظ تركيا بنحو 7 آلاف جندي وضابط دخلوا البلاد دون موافقاتٍ رسمية، مقابل 2500 جندي أمريكي موجودين بطلبٍ من حكومة بغداد، ومن المقرَّر مغادرتهم العام المقبل. وتُعدّ هذه من القضايا التي لم تتطرق إليها الاتفاقية الجديدة التي أُبرمت مع تركيا يوم الأحد الماضي.
وتتغلغل هذه القوات في بعض المناطق بعمقٍ يصل إلى 100 كيلومتر داخل الأراضي العراقية، مقتربةً من مدينة دهوك، ولديها نحو 136 معسكرًا، من بينها 121 معسكرًا أُقيم بعد عام 2018، بحسب تقريرٍ لتلفزيون “بي بي سي”.
ويُعتقد أن الاتفاقية الجديدة، التي تمنح تركيا “امتيازات”، ستستمر لمدة 10 سنوات، بحسب ما ذكرته شبكة “سي إن إن”.
ويحصل العراق حاليًا على أقل من 40٪ من حصته المائية المستحقّة، نظرًا لاعتماده الكبير على الأنهار التي تنبع من الدول المجاورة، وفقًا لوزارة الموارد المائية العراقية.
وتعتمد نحو 70٪ من موارد العراق المائية على التدفقات القادمة من الخارج، بنسبة 50٪ من تركيا، و15٪ من إيران، و5٪ من سوريا.
وفي السياق، قال ظافر العاني، وهو نائبٌ سابق: “إذا كانت للحكومة العراقية حساباتها السياسية مع تركيا، فإن الشعب العراقي، وهو المتضرر الرئيسي من جفاف النهرين، عليه أن يقول كلمته”.
ودعا العاني، وهو مرشحٌ للانتخابات القادمة عن بغداد، العراقيين عبر منصة “إكس” إلى “مقاطعة البضائع التركية التي تملأ أسواقنا”، مضيفًا: “من ريع أموالنا تُبنى السدود التي قضت على زرعنا وعرّضت أمننا المعيشي للخطر”.
ويبلغ حجم التبادل التجاري بين العراق وتركيا نحو 20 مليار دولار، فيما يُتوقّع أن يصل قريبًا إلى 30 مليار دولار، بحسب وزارة التجارة التركية.
“نظرة ضيقة”
ويقول الخبير الاقتصادي زياد الهاشمي إنّه بعد مضي أكثر من 15 سنة، يعود العراق للتوقيع على اتفاقيةٍ غير مضمونة وذات كلفةٍ أعلى بكثير من اتفاقية عام 2010.
وأضاف في حسابه على منصة “إكس” متحدثًا عن الاتفاقية الأخيرة التي ستمنح العراق مليار لترٍ مكعب من المياه: “تم فيها إدخال التجارة والنفط والديون كثمنٍ إضافي لإقناع الأتراك بزيادة تدفقات المياه!”.
وأوضح الهاشمي أن رئيس الوزراء العراقي في عام 2010، نوري المالكي آنذاك، رفض – “وبنظرةٍ ضيقة” – المضيَّ باتفاقيةٍ سابقة مع تركيا حول المياه، كانت أقل كلفةً من الاتفاقية الحالية.
واعتبر الهاشمي أن سبب الرفض آنذاك كان بحجة أن تلك الاتفاقية قد تُحسب كإنجازٍ اقتصاديٍّ لأحد الأطراف السياسية يمكن أن يستفيد منها في انتخابات عام 2010.
ورفض المتحدث باسم الحكومة، باسم العوادي، الأنباء التي تحدّثت عن “تنازل العراق عن ديونه” لصالح تركيا مقابل الاتفاقية التي تم توقيعها بين البلدين، وذلك في مقابلةٍ تلفزيونيةٍ أُجريت معه.
ويتهم بعض حلفاء رئيس الوزراء محمد السوداني في “الإطار التنسيقي” الأخير بأنه “يجامل تركيا” على حساب سعيه للحصول على ولايةٍ ثانية.
وقال عضو منظمة بدر، مختار الموسوي: “السوداني زار تركيا عدة مرات ولم يطلعنا على ما جرى هناك.. تبدو الزيارات ذات طابعٍ شخصيٍّ”.
وزار السوداني أنقرة ثلاث مراتٍ منذ توليه السلطة نهاية عام 2022، فيما اعترفت بغداد العام الماضي بأن حزب العمال الكردستاني “منظمة إرهابية”.
وفي الشهر الماضي، انسحب نحو 50 مسلحًا من حزب العمال من تركيا إلى العراق تحت إشراف قواتٍ أمنٍ تركية، وسط توقعاتٍ بانسحاب ما بين 200 إلى 300 مسلحٍ آخرين، بينما لا يُعرف حتى الآن ما إذا كان هذا الانسحاب قد تم بموافقة بغداد.
وتعتبر بعض أجنحة “الإطار التنسيقي” الوجود التركي في العراق “احتلالًا”، وتشير إلى أن أنقرة تقوم بتدريب “ميليشياتٍ عراقيةٍ” خاضعةٍ لها بنسبة 100٪، بحسب ما قاله زعيم “عصائب أهل الحق” قيس الخزعلي.
“الأمن قضية مؤجلة”
من جهته، يرى أحمد الياسري، رئيس المركز العربي–الأسترالي للدراسات الاستراتيجية، أن تحركات حكومة السوداني تجاه تركيا لا تحكمها الدوافع الأمنية بقدر ما تحركها الاعتبارات الاقتصادية.
وأوضح أن “ملف المياه يُعدّ محورًا أساسيًا، لأنه يرتبط بمشروع التنمية الذي يدعو إليه السوداني”، مشيرًا إلى أن أي نقصٍ في المياه سيؤدي إلى أزمةٍ شاملةٍ في العراق تمس قطاعات الزراعة والصناعة وتوليد الكهرباء.
وقال الياسري: “أعتقد أن السردية الأمنية مع تركيا مؤجلةٌ حاليًا. السوداني، منذ البداية، عندما اتجه لعقد اتفاقياتٍ أمنيةٍ متعلقةٍ بوجود حزب العمال الكردستاني شمال العراق، كان هاجس الحكومة واضحًا في هذا الاتجاه. وهي تقريبًا أول حكومةٍ بعد عام 2003 تقبل الوجود العسكري التركي المباشر، بل ذهبت نحو التعاون معه، خصوصًا بعد إعلانها رسميًا أن حزب العمال منظمةٌ إرهابية”.
وأضاف أن “تركيا تُعدّ حليفًا للولايات المتحدة، ما شكّل رؤيةً لدى حكومة السوداني بضرورة استبدال الدور الإيراني بدورٍ بديلٍ تركي، ضمن نطاقٍ اقتصاديٍّ وتجاريٍّ وربما أمنيٍّ محدود، على غرار ما حدث في سوريا ولكن بعمقٍ أقل”.
وأشار الياسري إلى أن تركيا تستغل هذا الانفتاح العراقي لتوسيع نفوذها، إذ يسمح لها ذلك بأن تكون “بديلًا جزئيًا عن إيران، ويمنحها مساحةً أوسع للحركة الأمنية والتجارية”.
ولفت إلى أن “التدخل الأمني التركي في العراق يمثل بالنسبة لأنقرة ضمانةً لحماية نفوذها في سوريا، فكلما ازداد عمق دورها هناك، ازدادت حاجتها إلى تعزيز وجودها في العراق”.
واختتم الياسري بالقول إن “تصاعد التوتر بين تركيا وإسرائيل يعزز هذا التوجه، إذ ترى أنقرة أن طموحات نتنياهو ومحاولاته تأمين خط الجنوب السوري نحو غرب العراق تمثل تهديدًا مباشرًا، ما يجعل العراق أولويةً استراتيجيةً للأمن القومي التركي”.