الوثيقة | مشاهدة الموضوع - من يوقف مهزلة التطبيع مع الاحتلال؟ د . سعيد الشهابي
تغيير حجم الخط     

من يوقف مهزلة التطبيع مع الاحتلال؟ د . سعيد الشهابي

مشاركة » الاثنين فبراير 06, 2023 5:53 am

لم تمر سوى بضع ساعات على القصف الإسرائيلي المدمر لقطاع غزة، ويومين فحسب على قصفها منشآت عسكرية في مدينة أصفهان الإيرانية، حتى فتحت قوات الاحتلال نيران مدافعها السياسية والإعلامية باتجاهات أخرى لصرف الأنظار عن هذه الأعمال العدوانية التي لم تتوقف يوما. وصاحب ذلك إعلانها عن تطوير طائرات مسيرة تحمل ذخائر تدميرية يبلغ وزنها طنا، وذلك في إطار سياسة تتسم بالغرور والتذاكي والتشويش على الواقع.
وقد سعت «إسرائيل» لاستفزاز إيران التي كانت تستعد لإحياء الذكرى الرابعة والأربعين لثورتها التي أطاحت بنظام الشاه ومعه علاقات حكومته بالكيان الإسرائيلي. ولا يمكن أن تنسى حكومة الاحتلال تلك الضربة التي كانت آنذاك الأقوى منذ نشوئه، فقد خسرت داعما صلبا لم تستطع التعويض عنه حتى الآن، ولكنها تبذل جهودا مضنية لاستبداله بتحالفات جديدة. وليس جديدا القول بأن إسرائيل تنفذ سياسات عدوانية عسكرية متواصلة تارة بقصف سوريا، وأخرى باستهداف إيران، وثالثة بضرب أهالي غزة ورابعة بقصف المجموعات المسلحة على الحدود بين العراق وسوريا. يحدث ذلك في ظل صمت مطبق سواء من الحكومات العربية أم دول العالم الأخرى.
القادة الإسرائيليون يعلمون أن تلك الأعمال لن تؤثر على التوازن الاستراتيجي في الشرق الأوسط بشكل جذري، لكنها تهدف من ذلك لأمور عديدة: أولها إدخال الهلع والفزع في نفوس رافضيها من الحكومات والشعوب والمجموعات السياسية. ثانيها: توفير مجالات عملية لقواتها لاختبار ما لديها من أسلحة لكي تتوفر على خبرات تستخدمها عند نشوب أي نزاع عسكري مع دول المنطقة. ثالثها: تمارس قوات الاحتلال مبدأ «الهجوم خير وسيلة للدفاع» وتعتبر الضربات الاستباقية لأعدائها جانبا من خططها الاستراتيجية. أليس هذا ما حدث في حرب حزيران 1967 عندما باغتت الدول العربية بعدوانها ودمرت طيرانهم قبل بدء الحرب الموعودة؟ رابعها: أنها تأمل في فرض واقع جديد يدعم مشروع «الشرق الأوسط» الجديد الذي روجت له الولايات المتحدة والذي يتمحور حول ممارسة «إسرائيل» دورين أساسيين: دور الشرطي الذي يستخدم العدوان لكبح جماح من تسول له نفسه برفض التطبيع، ودور الشريك السياسي للدول العربية التي دخلت ضمن مشروع التطبيع بعد قيام تحالف قوى الثورة المضادة التي أجهضت ثورات الربيع العربي قبل اثني عشر عاما. وتبذل الولايات المتحدة جهودا مضنية لضمان تحقق ذلك، على أمل إلغاء القضية الفلسطينية من أذهان العرب والمسلمين. وعلى مدى ثلاثة أرباع القرن لم تقدم واشنطن سوى الدعم المطلق للكيان، ولكنها فشلت في تحويل الموقف الدولي الذي بقي داعما للقضية برغم الضغوط. اليوم يتحدث بعض زعمائها، وآخرهم وزير خارجيتها أنتوني بلينكن عن ما يسميه «حل الدولتين» وأن أمريكا تدعم قيام دولة فلسطينية مستقلة بجانب كيان الاحتلال. لكن لم يبذل أولئك الزعماء جهودا حقيقية لتحقيق ذلك، فما يزال المبدأ الامريكي تجاه القضية قائما على أساس «ضمان أمن إسرائيل وتفوقها العسكري». لذلك لم يصدر قط شجب أمريكي لأي من الجرائم الصهيونية. فعندما ارتكبت قوات الاحتلال جريمة قتل تسعة فلسطينيين في جنين، لم تحرّك واشنطن إصبعا، ولكن عندما انتقم الفلسطينيون وقتلوا سبعة من المحتلين لم تتأخر واشنطن لحظة عن شجبها وتنديدها بالعملية. هذه الازدواجية في المواقف والمعايير تمثل واحدا من أسباب استمرار الاحتلال الذي يسعى داعموه للحصول على إضفاء شرعية وهمية عليه.

التنمر الإسرائيلي لم يختف يوما، أن كما أن وجود بنيامين نتنياهو على رأس السلطة يعمّق النفور من الكيان وسياساته، خصوصا ما يمارسه من استعراضات بهلوانية وصلف سياسي مؤلم للآخرين، وسعي متواصل للتذاكي الفارغ

وما أكثر حالات التنمر الإسرائيلي الذي يزداد صلافة، مستغلا حالة الضعف والخنوع في الدوائر الرسمية العربية من جهة، ودور ما يسمى «القوة الناعمة» من جهة أخرى. هذه القوة تهدف لتهميش الأجيال الناشئة من خلال إضعافها النفسي والديني لتبتعد تدريجيا عن قضية فلسطين التي بقيت عنوانا للصراع في المنطقة. كما كانت مصدر إلهام لأجيال عربية عديدة غرست فيها روح الثورة والرغبة في التغيير ورفض الهيمنة الغربية خصوصا الأمريكية. فلم تمر فترة سابقة استخدمت فيها قوات الاحتلال العدوان العسكري على دول المنطقة وشعوبها بالحجم الحالي. هذه السياسات الإسرائيلية توفر لها أمنا مؤقتا، ولكنها تؤدي لنفور غربي واسع يتجلى تارة على صفحات الإعلام، وأخرى من خلال تفاقهم ظاهرة ما يسمى «العداء للسامية» وثالثة بتوسع دوائر الدعم الشعبي لفلسطين، حتى أصبح تبني القضية سمة ملازمة لذوي التوجهات التقدمية والليبرالية في العالم.
التنمر الإسرائيلي لم يختف يوما، أن كما أن وجود بنيامين نتنياهو على رأس السلطة يعمّق النفور من الكيان وسياساته، خصوصا ما يمارسه من استعراضات بهلوانية وصلف سياسي مؤلم للآخرين، وسعي متواصل للتذاكي الفارغ. ففي الوقت الذي وصل فيه وفد إسرائيلي إلى الخرطوم الأسبوع الماضي لإكمال إجراءات التطبيع بين الطرفين، سعى المسؤولون الإسرائيليون لتوجيه الأنظار بعيدا عن تمدد نفوذهم إلى الساحل الأفريقي. هذا التمدد يزداد توسعا خصوصا مع توفر الدعم المالي والسياسي ليس من قبل أمريكا فحسب بل من بعض الحكومات العربية التي أقدمت على التطبيع. فقد فرضت لها وجودا عسكريا في العديد من الموانئ في البحر الأحمر بالقرب من باب المندب. مع ذلك تستخدم قوات الاحتلال إيران كشماعة لممارساتها العدوانية تارة، وتوسيع نفوذها تارة أخرى. وفي الأسبوع الماضي ركزت تل أبيب على ما تسميه «محاولات إيران تحسين علاقاتها مع تلك المنطقة». جاء ذلك التصريح متزامنا مع زيارة رئيس تشاد محمد ديبي، وبشكل خاص لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي. واعتبرت تلك الزيارة تأكيدا بأن العلاقات بين الطرفين التي بدأت منذ خمس سنوات لها أهمية تتعلق بالأمن في تشاد. بينما لم تتحدث تشاد ذات الأغلبية المسلمة عن وجود كبير لإيران أو حزب الله في منطقة الساحل التي تتنازع على أجزاء منها مع حركات متطرفة مثل بوكو حرام والقاعدة وتنظيم داعش. وقبل عامين قتل رئيس تشاد، إدريس ديبي على جبهات القتال مع هذه الحركات. وقد أصبح وجود تلك الحركات في أفريقيا مبررا للتوسع الإسرائيلي بذريعة وجود دور له في مكافحة تلك المجموعات. وبموازاة التوسع الإسرائيلي في وسط القارة بادر جيش السودان بالتحرك لتطبيع العلاقات مع «إسرائيل». وتولى الجيش زمام الأمور في البلاد منذ انقلابه في العام 2021. وتراهن قوات الاحتلال على الحكومات العسكرية للتطبيع، بينما ترى في الحكومات الديمقراطية والبرلمانات معوّقا لذلك، لأنها تعبر عن مواقف الشعوب وتطلعاتها. ومن مهازل القدر أن يتحدى وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين الضمير العربي بعد عودته من الخرطوم يوم الخميس الماضي ويقول: «إن الإسرائيليين يتذكرون الخرطوم دومًا باعتبارها المدينة التي أعلنت فيها جامعة الدول العربية عام 1967 قرار «اللاءات الثلاث» بشأن إسرائيل وهي لا اعتراف ولا سلام ولا مفاوضات». ويضيف: «نحن (الآن) نبني واقعا جديدا مع السودانيين، حيث ستصبح اللاءات الثلاث… نعم للمفاوضات بين إسرائيل والسودان ونعم للاعتراف بإسرائيل ونعم للسلام بين الدول والشعوب». هذه الكلمات تمثل طعنة موجعة للضمير العربي الذي يرى أشد أعدائه متهكما بصلافة وعنجهية وغرور.
ما الذي فعلته قوات الاحتلال لتستحق مصافحة أيدي قادتها الملطخة بدماء أهل فلسطين؟ فالسلطة الفلسطينية التي مضى على قيامها أكثر من عشرين عاما محاصرة تماما ولا تملك سيادة ذات معنى. فقد توسع بناء المستوطنات في الضفة الغربية بشكل واسع وعلني، حتى غطت قرابة ثلث مساحتها. وما تزال ترفض الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته المستقلة، وما تزال آلة القتل تحصد أرواح شباب فلسطين بدون رحمة. وحسب المعطيات الرسمية فقد قتل 225 شخصا في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال العام 2022. كما انتخبت واحدة من أكثر الحكومات تطرفا في تاريخ الكيان. ولعل الأخطر من ذلك حالة الاختراق الإسرائيلي للوضع السياسي العربي من خلال التطبيع غير المحدود.
أمام هذه الحقائق هل يستيقظ الضمير العربي وينتفض؟

كاتب بحريني
العناوين الاكثر قراءة









 

العودة إلى المقالات

cron