من زهير أندراوس:
على الرغم من أن الخلاف الأخير بين إسرائيل وتركيا هو أكثر من مجرد كلامٍ خطابيٍّ، إلّا أنّه من غير المرجح أنْ تقطع أنقرة علاقاتها نهائيًا مع الكيان، إلّا إذا منعتها إسرائيل من المشاركة في إعادة إعمار غزة، ولكن سقوط نظام الرئيس بشّار الأسد في سوريّة فتح الباب على مصراعيه أمام البلديْن للتعاون فيما بينهما لتقاسم الغنائم في هذا البلد العربيّ، إذْ لا تُخفي أنقرة ولا تل أبيب، أطماعهما في بلاد الشام، ولكن تبقى المسألة الكرديّة نقطة خلافٍ جوهريّةٍ بين الأتراك والصهاينة.
يُشار إلى أنّه في الثاني من أيّار (مايو) الماضي، حظرت تركيا جميع أنشطة الاستيراد والتصدير مع إسرائيل، معلنة أنّ المقاطعة ستستمر إلى أنْ “يتم تأمين وقف دائم لإطلاق النار وتوفير المساعدات الإنسانية في غزة”.
وأتت هذه الخطوة في أعقاب مجموعة من القيود التجارية المستهدفة التي صدرت في 9 نيسان (أبريل). وإذا تم تنفيذ هذه القرارات، فقد يكون لها آثار عملية أكثر أهمية بكثير من موقف أنقرة السابق في زمن الحرب تجاه إسرائيل. ففي عام 2023 بلغت التجارة بين البلدين 7 مليارات دولار، وتركيا هي خامس أكبر مصدّر لإسرائيل.
وسابقًا، كان القادة الأتراك يسيرون على خط رفيع في تعاملهم مع الحملة العسكرية الإسرائيلية ضد (حماس)، حيث انتقدوا بشدة حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في حين تجنبوا عمومًا اتخاذ خطوات انتقامية ملموسة قد تلحق الضرر مجددًا بالعلاقات الثنائية. وتشير المقاطعة التجارية إلى تشديد هذه السياسة، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا لماذا الآن؟ وهل ستتخذ أنقرة خطوات أخرى ضد إسرائيل.
وبحسب معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى فإنّه لا يُخفى أنّ العلاقات التركية الإسرائيلية معقدة، لا سيما على صعيد الصراع الفلسطيني، وتنعكس هذه التعقيدات في الخلاف الأخير بين الطرفين. فقد انقطعت العلاقة بالكامل في عام 2010 عندما رعت أنقرة أسطولاً بحريًا لكسر الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة الذي تحكمه (حماس)، ممّا أسفر عن غارة عسكرية مثيرة للجدل وأزمة دبلوماسية دولية. وما هي إلا فترة وجيزة حتى بدأت تركيا علنًا بتقديم الدعم الدبلوماسي الكبير والملاذ الآمن لحركة (حماس).
ولم تَعُد الأمور إلى مجراها بالكامل إلّا بعد أكثر من عقد من الزمن، عندما أعادت إسرائيل وتركيا سفيريهما في كانون الأول (ديسمبر) 2022. وبحلول ذلك الوقت، كان دور أنقرة في الشؤون الإسرائيلية الفلسطينية قد تضاءل بشكل كبير، وأدرك المسؤولون الأتراك أنهم بحاجة إلى إبقاء القنوات الدبلوماسية مع إسرائيل مفتوحة من أجل الحفاظ على نفوذهم في هذه القضية الإقليمية الحاسمة، ومن هنا جاءت أشهر من الحذر بشأن قطع العلاقات مجددًا بعد اندلاع حرب غزة في تشرين الأول (أكتوبر) والأتراك حريصون بشكلٍ خاصٍّ على وضع تركيا كجهة فاعلة في أي سيناريوهات ما بعد الحرب في غزة.
غير أنّ هذا لا يعني أنّهم التزموا الصمت بشأن الصراع، فقد أصدرت أنقرة العديد من الانتقادات الحادة في مراحل مختلفة من الحرب، وخاصة في بداية الأزمة. ولكن قبل هذا الأسبوع، صيغت معظم هذه التصريحات بدقة لإلقاء اللوم والعار على نتنياهو شخصيًا بدلاً من إسرائيل ككل. على سبيل المثال، في 15 تشرين الثاني (نوفمبر)، اتهمته وزارة الخارجية التركية بـ “دخول صفحات التاريخ المظلمة بالقمع والمذابح التي تُرتكب ضد الشعب الفلسطيني”. وقد اتبع الرئيس رجب طيب أردوغان الخط نفسه في غالب الأحيان، على غرار ما حدث عندما وصف نتنياهو في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) بأنه “جزار غزة”.
ويبدو أنّ أنقرة، بتبنّيها هذا النهج، تعتقد أنّه سيتم في نهاية المطاف التصويت لإقالة نتنياهو من منصبه، مما يُمكّن أردوغان من العمل بأمان مع خليفته بينما يضع جانبًا الانتقادات القاسية في زمن الحرب باعتبارها نتاجًا لسياسات نتنياهو وحدها.
في السياق عينه رأى الدبلوماسيّ الإسرائيليّ، ميخائيل هراري، سفير الكيان السابق في قبرص، والذي خدم أيضًا في سفارات تل أبيب في كلٍّ من القاهرة وأنقرة ولندن، رأى في مقالٍ نشره بصحيفة (معاريف) العبريّة أنّ السقوط السريع لنظام الأسد أثر على عددٍ من اللاعبين الإقليميين وأيضًا الدوليين، مُشدّدًا على أنّ تركيّا هي من أكثر الدول الرابحة من سقوط الأسد، إذْ أنّ أهمية الوضع في سوريّة على الأمن القوميّ التركيّ مفهومة، فسوريّة هي دولة جارة، والتي تتقاسم الحدود الطويلة بين البلديْن، بالإضافة إلى التاريخ الصعب بينهما، وعلى نحوٍ خاصٍّ في كلّ ما يتعلّق بالمسالة الكرديّة، التي تُعتبر بالنسبة لأنقرة تهديدًا كبيرًا، على حدّ تعبيره.
وأضاف أنّه في السنة الأخيرة حاول الرئيس أردوغان تحسين علاقاته مع الأسد بهدف إعادة اللاجئين السوريين إلى ديارهم، وبالمقابل واصلت تركيّا دعم “المتمردين” السوريين بالإضافة إلى جهاتٍ أخرى كانت أنقرة ترعاها، وذلك بهدف استخدامهم كأوراق ضغطٍ على النظام في دمشق من أجل الحفاظ على مصالحها ضدّ الأكراد في سوريّة، على حدّ تعبيره.
من ناحية إسرائيل، أضاف هراري، هناك قضيتيْن مركزيتيْن في الشأن التركيّ، إذْ أنّ سقوط الأسد خلق مجالاً جديدًا للتعاون بين أنقرة والكيان، والسؤال هل تنضج العلاقات بينهما لهذا السبب، أمّا القضية الثانيّة، فلإسرائيل يوجد تاريخ طويل فيما يتعلّق بالأكراد، ومن غير المستبعد أنْ تدعم إسرائيل الوجود العسكريّ الأمريكيّ في سوريّة، ولذا فإنّ اصطفاف الكيان إلى جانب الأكراد سيؤدّي إلى مواجهةٍ دبلوماسيّةٍ بين تل أبيب وأنقرة، طبقًا لأقواله.
وخلُص إلى القول إنّ تبادل الاتهامات الكلاميّة بين البلديْن بالنسبة لسوريّة سيستمِّر، ولكن هذا الأمر لن يقودهما إلى قطيعةٍ بينهما، إذْ ستجدان في نهاية المطاف طريقًا للحلّ الدبلوماسيّ بينهما، بشكل يضمن مصالح الدولتيْن في سوريّة ما بعد الأسد، على حدّ تعبيره.