لم يكن خور عبد الله يوماً مجرّد ممرّ مائي على أطراف الخليج العربي، بل هو شريان استراتيجي يختزن في أعماقه تاريخاً من التوترات السياسية، والقرارات الأممية، والمفاوضات الحساسة بين العراق والكويت. إذ يعود النزاع إلى قرار مجلس الأمن رقم 833 لسنة 1993، الذي رسم الحدود البرية والبحرية بين العراق والكويت. وقد توقفت لجنة الترسيم عند النقطة 162 عند مصب الخور في الخليج العربي، ما ترك مجالاً لاحتمالات الخلاف في المناطق وراءها في اتجاه الخليج. الاتفاقية التي وقعت في 2012 تأتي في سياق تفاوضي بين الطرفين لتنظيم الملاحة في الخور فقط، دون أن تمس السيادة أو تعيد ترسيم الحدود، وقد صدق عليها البرلمانان العراقي والكويتي في 2013.
شكل قرار المحكمة الاتحادية في 2023 صدمة للكويت ولدول مجلس التعاون الخليجي، إذ رأوا في حيثياته مغالطات تاريخية تعيد من جديد خطاب العراق في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. ووفقاً لتقرير منظمة حل الأزمات الدولية، فقد رفضت الحكومة العراقية لمدة 18 شهراً اتخاذ موقف رسمي من القرار، قبل أن تتم الدعوة لإعادة نظر القضاء في مشروع الاتفاق والمضي في المسار الدبلوماسي.
على العراق أن يوازن بين خطاب السيادة والمصالح الوطنية العليا. والانتقال من سجالات داخلية موسمية إلى استراتيجية بحرية واضحة، تتضمن إعلان EEZ وتثبيت الحقوق في الأمم المتحدة
دول الخليج، وفي مقدمتها الكويت والسعودية، تنظر إلى هذا التطور باعتباره مؤشراً مقلقاً على إمكانية إعادة فتح ملفات حدودية، أو اتفاقات بحرية سابقة، وهو ما يهدد مبدأ الاستقرار القانوني، الذي يُعد ركيزة للتعاون الإقليمي. هذه المخاوف تزايدت مع ورود تصريحات داخل العراق تحمل إيحاءات تاريخية حول وضع الكويت قبل الاستقلال، الأمر الذي أثار حساسية سياسية في المنطقة. النزاع جاء أيضاً في توقيت حساس، حيث يسعى العراق لتكريس حضوره كشريك اقتصادي موثوق ضمن منظومة الخليج، عبر مشاريع استراتيجية مثل، الربط الكهربائي الخليجي، وطريق التنمية الذي يربط ميناء الفاو بتركيا وأوروبا. هذه المبادرات كانت تُستقبل بترحيب حذر في العواصم الخليجية، لكن الجدل حول خور عبد الله أبطأ من وتيرة الحماس، وأعاد طرح سؤال جوهري: إلى أي مدى يمكن الوثوق بالالتزامات العراقية على المدى البعيد؟ كما أن هذا الخلاف يتقاطع مع ملفات حساسة أخرى، مثل النزاع حول حقل الغاز البحري «آراش/الدرة» بين الكويت والسعودية من جهة، وإيران من جهة أخرى. ووفقاً لتقرير منظمة حل الأزمات الدولية، فإن بعض القوى السياسية العراقية المعارضة للاتفاق البحري مع الكويت، تميل لدعم الموقف الإيراني في هذا النزاع، ما يجعل ملف خور عبد الله ليس مجرد مسألة حدودية، بل جزءاً من شبكة أوسع من التوازنات الجيوسياسية في الخليج. بذلك، يتجاوز تأثير الأزمة حدود العلاقات العراقية ـ الكويتية، ليطال صورة العراق الإقليمية ككل، ويضع اختباراً حقيقياً أمام قدرته على بناء الثقة مع شركائه الخليجيين، خصوصاً في ظل بيئة إقليمية تتسم بالتوترات المتعددة والتنافس على النفوذ البحري والاقتصادي.
قرار المحكمة الاتحادية العراقية في سبتمبر 2023 بإلغاء قانون المصادقة على اتفاقية خور عبد الله، فجّر انقساماً داخلياً واضحاً، فهناك تيار سياسي وقانوني يرى أن الحل المباشر يكمن في إعادة طرح الاتفاقية على البرلمان للتصويت بأغلبية الثلثين المطلوبة دستورياً، ما يمنحها شرعية كاملة ويغلق الباب أمام أي طعون مستقبلية، في المقابل، يرى تيار آخر أن الفرصة مواتية لفتح مفاوضات جديدة مع الكويت، ليس فقط لتصحيح ما يعتبرونه «اختلالاً» في الاتفاقية الحالية، بل لإعادة التفاوض حول مجمل الحدود البحرية، وخاصة ما وراء النقطة 162، وربط ذلك بترتيبات اقتصادية وأمنية أوسع.هذا الانقسام لم يكن فنياً أو قانونياً بحتاً، بل حمل أبعاداً سياسية وانتخابية واضحة، إذ اعتبر بعض النواب المعارضين للاتفاق أن إعادة التفاوض تمنحهم ورقة قوية أمام قواعدهم الانتخابية، خصوصاً في المحافظات الجنوبية حيث الحساسية تجاه ملف الحدود والمياه، عالية. في المقابل، رأى أنصار إعادة التصويت، أن أي تأخير أو فتح ملفات جديدة قد يعرقل مسار العلاقات مع الكويت ويضر بمصالح العراق الاقتصادية في الخليج.
الأخطر من ذلك، أن هذه الأزمة كشفت هشاشة الموقف البحري للعراق على المستوى الدولي، فالعراق، حتى اليوم، لم يعلن رسمياً عن منطقة اقتصادية خالصة(Exclusive Economic Zone – EEZ) في الخليج العربي، على الرغم من أن اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS) التي تمنح الدول الساحلية، حق المطالبة بمثل هذه المنطقة لمسافة تصل إلى 200 ميل بحري، شريطة ألا تتعارض مع حقوق الدول المجاورة. غياب هذا الإعلان الرسمي يعني أن العراق يفتقر إلى أساس قانوني متين يحدد حقوقه الاقتصادية البحرية في الصيد، والتنقيب عن النفط والغاز، وتطوير البنى التحتية البحرية. ويحذر خبراء القانون البحري من أن التأخر في إعلان EEZ قد يُفسر دولياً على أنه تنازل ضمني عن الحقوق، خاصة في ظل استمرار الكويت في تقديم خرائط بحرية محدثة للأمم المتحدة، تتضمن أحياناً تعديلات على شكل السواحل بفعل مشاريع الردم واستصلاح الأراضي. هذه التعديلات قد تؤثر على خطوط الأساس التي تُحتسب منها المناطق البحرية، وبالتالي على نطاق الحقوق العراقية. كما أشار التقرير إلى أن بعض المختصين، مثل الباحث الاقتصادي زياد الهاشمي، يدعون الحكومة العراقية إلى التحرك سريعاً نحو تفاوض ثلاثي مع الكويت وإيران لحل تداخلات الحدود البحرية، قبل أن تفرض الوقائع الجغرافية والسياسية نفسها على الأرض. وإذا فشلت هذه المفاوضات، فإن اللجوء إلى التحكيم الدولي، أو محكمة البحار (ITLOS) يظل خياراً مطروحاً، لكنه محفوف بالمخاطر السياسية والقانونية، وقد يستغرق سنوات.
بمعنى آخر، فإن قرار المحكمة لم يكن مجرد حكم قانوني بإبطال قانون، بل كان جرس إنذار حول هشاشة الإطار القانوني الذي يحكم حقوق العراق البحرية، وأثره المحتمل على مشاريع استراتيجية مثل ميناء الفاو الكبير، الذي يعتمد في نجاحه على ضمان حرية ملاحية مستقرة ومؤمنة في الممرات البحرية المشتركة مع الكويت. من جانب آخر تحولت قضية النزاع حول خور عبد الله سريعاً إلى ورقة ضغط داخلية، أطراف سياسية استغلت الملف لتوجيه اتهامات بالفساد والتفريط، وأخرى وجدت فيه فرصة لإعادة تسويق خطاب «حماية السيادة» استعداداً للانتخابات المقبلة. ومع تأجيل المحكمة الاتحادية النظر في الطعون، تبدو القضية مرشحة للاستمرار، كأداة سياسية قابلة للتوظيف في الصراعات الداخلية، خصوصاً مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية، حيث يمكن استدعاؤها بسهولة في الخطاب الشعبوي أو استخدامها كورقة مساومة بين الكتل السياسية.
أمام العراق والكويت عدة مسارات محتملة لمعالجة أزمة خور عبد الله. أول هذه المسارات يتمثل في إعادة طرح الاتفاقية على البرلمان العراقي للتصويت مجدداً، ولكن هذه المرة بأغلبية الثلثين المطلوبة دستورياً، ما من شأنه أن يمنحها شرعية قانونية ودستورية كاملة، إلا أن هذا الخيار محفوف بالمخاطر السياسية، خاصة في ظل اقتراب موعد الانتخابات، حيث قد يتردد كثير من النواب في تحمل تبعات موقف قد يُستغل انتخابياً ضدهم.
الخيار الثاني يقوم على فتح مسار تفاوضي جديد مع الكويت، يتناول ليس فقط تنظيم الملاحة في الخور ضمن الحدود المرسَّمة، بل يمتد إلى ما بعد النقطة 162، مع بحث ترتيبات اقتصادية وأمنية مشتركة. وقد يشمل ذلك التكامل بين المشاريع البحرية الكبرى، وفي مقدمتها ميناء الفاو الكبير في العراق وميناء مبارك الكبير في الكويت، بما يحولهما من مشروعين متنافسين إلى رافعتين للتعاون الإقليمي.
أما المسار الثالث، فيتمثل في اللجوء إلى التحكيم أو القضاء الدولي، وبالتحديد إلى المحكمة الدولية لقانون البحار، إذا تعذر الوصول إلى تسوية ثنائية مقبولة. هذا المسار، رغم طبيعته القانونية، يمكن أن يوفر للعراق ضمانة للحفاظ على حقوقه الملاحية وتثبيتها دولياً، لكنه يحمل في طياته أيضاً مخاطر طول أمد الإجراءات واحتمال صدور أحكام لا تحقق كل ما يطمح إليه أي من الطرفين.
اذن على العراق أن يوازن بين خطاب السيادة والمصالح الوطنية العليا. يجب الانتقال من سجالات داخلية موسمية إلى استراتيجية بحرية واضحة، تتضمن إعلان EEZ وتثبيت الحقوق في الأمم المتحدة. كما يجب على الكويت أن تبدي مرونة في استكمال الترسيم، بما يضمن مصالح الطرفين. دول الخليج، بدورها، معنية بعدم ترك النزاع يعطل مشاريع الربط الاقتصادي والتكامل الإقليمي، خاصة أن التحديات الأمنية الإقليمية أكبر من أن تُترك العلاقات البينية عرضة لأزمات متكررة.
*كاتب عراقي