الوثيقة | مشاهدة الموضوع - العراق وخرافة الانتخابات النزيهة : يحيى الكببسي
تغيير حجم الخط     

العراق وخرافة الانتخابات النزيهة : يحيى الكببسي

مشاركة » الجمعة مايو 29, 2020 8:44 am

6.jpg
 
من أبرز ملامح مرحلة ما بعد نيسان 2003 محاولة استنساخ بعض صيغ العلاقات بين مؤسسات الدولة، وتحديدا العلاقة بين ما أطلق عليها «الهيئات المستقلة» وباقي سلطات الدولة.
هكذا بدأ مصطلح الاستقلالية يتردد في بعض الأوامر التي أصدرها الحاكم بول بريمر في مرحلة سلطة الائتلاف المؤقتة. والتي بدأت مع الأمر رقم 18 «تدابير لضمان استقلال البنك المركزي العراقي»، والأمر رقم 55 الخاص بمفوضية النزاهة، ثم الأمر رقم 56 الخاص بالبنك المركزي العراقي، والأمر رقم 65 الخاص بإنشاء هيئة الاتصالات والإعلام العراقية، والأمر رقم 66 الخاص بالهيئة العامة للبث والإرسال، والأمر 77 الخاص بالمجلس الأعلى للرقابة المالية، والأمر 92 الخاص بمفوضية الانتخابات العراقية المستقلة.
وقد اعتمد الدستور العراقـي 2005 هذه المؤسسات بوصفها «هيئات مستقلة» بموجب المـادتين (102) و(103/أولا) منـه؛ حيث نصت الأولى على أن: «تعد المفوضية العليا لحقوق الإنسان ، والمفوضية العليا المستقلة للانتخابات ، وهيئة النزاهة ، هيئات مستقلة ، تخضع لرقابة مجلس النواب، وتنظم أعمالها بقانون». فيما نصت الثانية على أن «يعد كل من البنك المركزي العراقي، وديوان الرقابة المالية، وهيئة الإعلام والاتصالات… هيئات مستقلة ماليا وإداريا «، وجعل البنك المركزي مسؤولا أمام مجلس النواب، فيما عد الأخيرين يرتبطان بمجلس النواب.
لكن ما بدا واضحا أن البنى الذهنية للطبقة السياسية العراقية لا تتسق مع فكرة الاستقلالية، فسرعان ما أطاحت بها من خلال ممارساتها السياسية وقراراتها؛ مَثلُ ذلك القرار الإشكالي الذي أصدرته المحكمة الاتحادية (القرار 28/ اتحادية/ 2010) والذي قضى بأن «ارتباط بعض الهيئات المستقلة بمجلس النواب لا يحول دون إشراف مجلس الوزراء»، وقُوِّضت بذلك فكرة الاستقلالية التي نص عليها الدستور تماما، وهو القرار الذي أوصلنا، عمليا، إلى احتكار السلطة التنفيذية لهذه الهيئات تدريجيا.
تشكلت مفوضية الانتخابات العراقية المستقلة بموجب الأمر رقم 92 الذي أصدره بول بريمر في 31 أيار/ ماي 2004، أي قبيل نهاية ولاية سلطة الإئتلاف المؤقتة وتسليم مهامها للحكومة المؤقتة! وقد نصت المادة 1 من هذا الأمر على أن هذه المفوضية التي منحت سلطة «تنظيم ومراقبة وإجراء وتطبيق جميع الانتخابات»، قد تم إنشاؤها بما يضمن «استقلاليتها التامة عن التأثيرات السياسية». فيما نصت المادة 3 على أن تكون هذه المفوضية «مستقلة، تحكم ذاتيا، غير حزبية، محايدة ومهنية… وتكون مستقلة عن فروع الحكومة التنفيذية والتشريعية والقضائية»! لكن التدقيق في عمل المفوضية الأولى التي تم تشكيلها بتدخل مباشر من الأمم المتحدة، كشف عن تسييس واضح! وبدا هذا واضحا في الاستفتاء على الدستور عام 2005، لأن تمرير هذا الدستور كان يعتمد تماما على هذه النتيجة! حيث لا تزال هناك شكوك كبيرة حول نتائج هذا الإستفتاء، تحديدا في محافظة نينوى، ومراجعة الأرقام المتعلقة بنسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية في كانون الأول/ ديسمبر 2005 تكشف هذا التسييس، من خلال الأرقام المتعلقة بنسبة المشاركة العالية في محافظة الأنبار!

جاء تشكيل المفوضية العليا المستقلة للانتخابات لمكاتب المحافظات هذه الأيام ليكشف عن تحكم الآليات نفسها التي حكمت عمل المفوضيات الثلاث السابقة؛ فقد هيمنت الأحزاب والفاعلون السياسيون مرة أخرى على مكاتب المحافظات

ولكن بداية من المفوضية الثانية، التي تحول اسمها بموجب الدستور إلى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، سيطرت الأحزاب السياسية عليها، وتحولت معها إلى ممثلية أحزاب بالمطلق، وبتواطؤ صريح من الأمم المتحدة التي كانت تشارك في «مهزلة» تشكيلها، وتقوم بشرعنتها عبر تقاريرها التي تشرح الآلية الديمقراطية الزائفة التي حكمت هذا التشكيل! فقد تشكلت المفوضيات الثلاثة في الأعوام 2009، 2013، 2017 من خلال «محاصصة» بين الأحزاب الأقوى، والأكثر تأثيرا داخل مجلس النواب، وفقا للتوزيع الطائفي الذي يحكم المفوضية، إلى الدرجة التي يمكننا متابعة طبيعة التحولات السياسية التي حكمت علاقات القوى داخل مجلس النواب في هذه المرحلة، من خلال طبيعة تشكيلة مجلس المفوضين (على سبيل المثال لا الحصر فقد احتكر الحزب الإسلامي التمثيل السني في مفوضية العام 2009 من خلال المفوضين السنيين، في حين لم يحظ بأي تمثيل في المفوضية الأخيرة 2020 بسبب احتكار تحالف القوى العراقية لهذا التمثيل، ولكنه حصل على بعض التمثيل في مكاتب المفوضيات في المحافظات السنية بسبب تفاهماته مع التحالف الأخير وليس بسبب قوته الذاتية). ولم يقتصر الأمر على مجلس المفوضين فحسب، بل شمل كافة مكاتب المفوضية في المحافظات، مدراء وموظفين، ولم تكن المهمة الرئيسية للمفوضيات الثلاثة، إدارة انتخابات نزيهة وعادلة وشفافة، بل اقتصرت على ضمان مصالح الأحزاب التي لها تمثيل داخل المفوضية ومكاتبها!
في عام 2018، مع مهزلة انتخابات مجلس النواب التي أثبت تقارير رسمية التزوير واسع النطاق فيها، عمد مجلس النواب، بغياب القوى الفائزة، إلى إصدار قانون جمد فيه عمل المفوضية التي أنجزت هذا التزوير، وقرر فيه انتداب تسعة قضاة من أجل الإشراف على عملية العد والفرز اليدوي لجميع نتائج الانتخابات.
ولكن تجرية مفوضية القضاة هذه كشفت هي أيضا عن «تواطؤ» صريح مع الكارتل الذي قام بالتزوير في المقام الأول، من خلال «تمرير» نتائج الانتخابات المزورة كما هي، بل إنهم تجاوزوا مفوضية الانتخابات نفسها في ذلك، عندما عمدوا إلى مخالفة النظام رقم 12 لسنة 2018 المتعلق بتوزيع المقاعد، وقاموا بإعادة توزيعها لضمان وصول بعض الفاعلين السياسيين الخاسرين إلى مجلس النواب (وهو ما أثبتته المحكمة الاتحادية لاحقا من خلال قراراتها بإعادة توزيع المقاعد مرة أخرى)!
على الرغم من فشل القضاة في إدارة عملية العد والفرز اليدوي، أصرّ الفاعلون الرئيسيون في مجلس النواب على تشكيل مفوضية الانتخابات الجديدة، وهو من المطالب الرئيسية لحركة الاحتجاجات الأخيرة، من قضاة مستمرين في الخدمة، بل ومُنح لهؤلاء القضاة حق العودة إلى الخدمة بعد انتهاء دورة المفوضية البالغة خمس سنوات بموجب قانونها! وقد استطاعت الأحزاب الرئيسية في مجلس النواب، وفقا لعلاقات القوة الحاكمة، أن تضمن تمثيلها في المفوضية، عبر القضاة هذه المرة، ولم تكن مسرحية «القرعة» سوى محاولة مقننة لتمرير مرشحي الأحزاب، وهي الطريقة نفسها التي ضمنت بها تمثيلها في المفوضيات الثلاث السابقة! وكما في المرات السابقة أيضا، كانت الأمم المتحدة هذه المرة شريكا في ذلك! مع متغير خطير هو خضوع سبعة من هؤلاء القضاة التسعة على الأقل إلى سلطة رئيس مجلس القضاء الأعلى هذه المرة (لا يخضع العضوين الكرديين لسلطة رئيس مجلس القضاء الأعلى)، خاصة أن الجميع يعلم أن مسألة تعيين القضاة، وترفيعهم، كانت خاضعة دائما لاعتبارات سياسية!
وقد جاء تشكيل المفوضية العليا المستقلة للانتخابات لمكاتب المحافظات هذه الأيام ليكشف عن تحكم الآليات نفسها التي حكمت عمل المفوضيات الثلاث السابقة؛ فقد هيمنت الأحزاب والفاعلون السياسيون مرة أخرى على مكاتب المحافظات، عبر ترشيحاتهم للمدراء والموظفين الرئيسيين فيها، وهو ما سيجعل عمليات التزوير عملية مقننة تماما، خاصة مع حرص مجلس النواب على ضمان إمكانية التزوير ابتداءً من خلال رفضه لشرط اعتماد البطاقة البايومترية طويلة الأجل غير القابلة للتزوير في قانون الانتخابات الأخير.
وهكذا سواء كنا أمام انتخابات مبكرة مفترضة، أو انتخابات بعد نهاية دورة مجلس النواب الحالي، فإن كل المقدمات التي سردناها تؤكد خرافة فكرة الانتخابات النزيهة والشفافة في العراق!
العناوين الاكثر قراءة









 

العودة إلى المقالات

cron