الوثيقة | مشاهدة الموضوع - في مديح الديكتاتورية! يحيى الكبيسي
تغيير حجم الخط     

في مديح الديكتاتورية! يحيى الكبيسي

مشاركة » الجمعة مايو 26, 2023 5:57 am

في مقالة الأسبوع الماضي أشرنا الى أن العراقيين كانوا، ولا يزالون، ينتقدون بقسوة المجتمعات العربية بسبب دعمها لنظام صدام حسين، ويتهمونها بأنها لم تلتفت إلى مأساة المواطن العراقي الذي كان عرضة لانتهاكات النظام وبطشه، لكن هؤلاء أنفسهم لا يرون في دعمهم لنظام طائفي وشمولي ومجرم مثل النظام السوري، بالمال والسلاح والمقاتلين، أي مشكلة أخلاقية!
ويصرون على أن احتجاجات السوريين وثورتهم لم تكن سوى «مؤامرة كونية» ضد سوريا، ويفرضون أنفسهم أوصياء على السوريين، فيضعونهم بين خيارين زائفين هما الديكتاتورية أو الفوضى انتصارا للديكتاتورية!
في صحيفة «الصباح» الرسمية العراقية نجد مقالا بمناسبة إعادة اعتراف الجامعة العربية بالديكتاتور بشار الأسد مالكا حصريا لسوريا يقول فيه صاحبه: «رفعت القمة العربية في جدة شعار «المصالحة» و «لمّ الشمل» بعد أكثر من عقد دموي عاشته الشعوب العربية منذ انطلاق ما يسمى بـ «الربيع العربي» الذي تحوّل إلى «خريف تكفيري» بامتياز؛ لم تسلم أغلب الدول العربية من ارتداداته «المدمّرة». ومقالا آخر فيه: «اليوم يقف الحكام العرب ومن جاورهم على حقيقة مؤلمة، تتمثل في أنهم جميعا خدعوا وأنهم في تآمرهم على بعضهم مهدوا الطريق لهذا الخراب.. العرب بسبب عدم انضاجهم رؤية موحدة لحفظ أمنهم كأنظمة وأمن شعوبهم من خلالها.. وبعض الدول الإقليمية المؤثرة، لاعتقادها أن بإمكانها الاستحواذ على هذا البلد العربي أو ذاك في خضم فوضى (الربيع العربي) الذي خرج من أقبية المخابرات الدولية لتحقيق هدف بعيد غير معلن، تحقق بعضه، لكنه فشل استراتيجيا، لأسباب عديدة». ومقالا ثالثا يقول: «وعلى الوجه الآخر من الصورة فإن انتصار الجيش السوري في إعادة فرض السيادة على 95٪ من أراضي الدولة وقطع يد الإرهاب وصموده أمام كل طامعٍ أراد تفتيت البلد ونهب مقدراته، هنا يكون لزاماً على الدول التي كانت تراهن على سقوط سوريا بعد خلق حالة الفوضى، والتي سيستفيد منها في المقام الأول العدو الإقليمي الغادر إسرائيل أن تعترف بهذا الانتصار»!
تعكس هذه المقالات الثلاثة، فضلا عن مقالات أخرى، موقفا متسقا مع توجه الصحيفة الرسمية للدولة تجاه الأزمة السورية؛ فالثورة السورية، والربيع العربي عموما، لم يكن بنظر الصحيفة سوى «خريف تكفيري» و «مؤامرة مهدت للخراب» «خرجت من أقبية المخابرات الدولية» بهدف تفتيت سوريا ونهب مقدراتها، لمصلحة الكيان الصهيوني، ولكن «الجيش السوري» انتصر عليها!

في الوقت الذي كان فيه الإسلام السياسي في العراق «يُنظِّر» لجواز الاستعانة بالمحتل لإسقاط الديكتاتور، انقسم هذا الإسلام السياسي إلى من «يُنظِّر» للدفاع عن «ديكتاتور» آخر دون أي «إشكال شرعي» و«يناصر» انقلابات قامت بها زمرٌ هي مشاريع ديكتاتوريات

لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي، تحديدا التي تضم النخب المفترضة في العراق ببعيدة عن هكذا مواقف، فثمة اتجاه عام لتأييد عودة نظام بشار الأسد إلى الجامعة العربية، اتجاه تجاوز الدفاع عن النظام في سوريا إلى إنكار البديهيات المتعلقة بذلك النظام! فنقرأ بوستا يقول: «من عاش في سوريا لم يجد لما يقولونه [المعارضون] عن الطائفية من أثر إلا في أذهان المتشددين من الإخوان [المسلمين] وغيرهم»! فيما يتبرع بوست آخر لتقديم الوعظ للديكتاتور وأن عليه «أن يتعلم الدرس ويعيد بناء «مؤسساته الدستورية» ويفتح صفحة جديدة، وأن لا يبقى يشعر بالانتقام من «المؤامرة» ضد بلاده، بل يتخطى ذلك لأنه نجح في البقاء وعليه أن يهتم ببقاء شعبه وإعادة سوريا إلى «زهوها».
الشعب عانى وما يزال، وعلى النظام أن يضحي بالأبجديات الديكتاتورية من أجل أن يستمر بالانفتاح بكل الوسائل لإعادة البلاد إلى وضع أفضل، سوف لن يخسر شيء، الخاسرون هم الحرس القديم وعلى الرئيس الأسد التخلص منهم وتنحيتهم»! وبهذا تتحول الثورة السورية لدى هؤلاء إلى «مؤامرة» وتتحول دكاكين النظام الكارتونية في ظل الدولة التسلطية إلى «مؤسسات دستورية» ويتحول الديكتاتور إلى «ملاك» لولا «حرسه القديم»!
لا يمكن الركون فقط إلى التحيزات الطائفية والأيديولوجية لفهم هذا الخطاب، فالمسألة أكثر تركيبا وتعقيدا من ذلك، وتتعلق بالبنى العصبوية والسلطوية التي لا تزال حاكمة في العقل السياسي العربي والتي لا تفصل بين الدولة والسلطة، أو الدولة/ الإقطاعية ومالكها. وهذه البنى هي التي تجعل البعض قادرا على الاستدارة بوجهه بكل سلاسة (180 درجة كاملة) كي لا يرى مظاهر هذه العصبوية والسلطوية في سلوك الدولة وسلطاتها ومؤسساتها، ولكنه في الوقت نفسه متحفز للقتال للدفاع عنها بكل قوة!
بعد الانقلاب على مكتسبات الربيع العربي الهشة، سواء في مصر أو في تونس، اندفع الليبراليون المفترضون، للدفاع عن هذه الانقلابات، والدفاع عن مقولة «الزعيم الأوحد القوي» بِعُدّة تنظيريةٍ كاملة، وتحولت عندهم الانقلابات ضد مؤسسات دستورية منتخبة، «دفاعا عن الدولة المدنية» بل وصل الأمر بأحدهم إلى الدفاع عن مجزرة رابعة بكل أريحية لأنها «تنسجم مع المعايير الدولية لفض الاعتصامات»!
في الوقت الذي كان فيه الإسلام السياسي في العراق «يُنظِّر» لجواز الاستعانة بالمحتل لإسقاط الديكتاتور، ثم يتعاون مع هذا المحتل بعدها، انقسم هذا الإسلام السياسي وفق تحيزاته المذهبية والأيديولوجية، ووفق مبدأ «المستبد العادل» المتوهَّم! إلى من «يُنظِّر» للدفاع عن «ديكتاتور» آخر دون أي «إشكال شرعي» و «يناصر» انقلابات قامت بها زمرٌ هي مشاريع ديكتاتوريات، وهم مدركون أن هؤلاء المنقلبين، مناهضون للإسلام السياسي، لكن لا بأس بذلك، لديهم، إن كان إسلاما سياسيا مضادا، فيما يتحسَّر ُ الآخرون على مشاريع ديكتاتورية محتملة سُلبت منهم!
هذا التخبط والتناقض والشيزوفرينيا الجماعية لدي النخبة السياسية، والنخبة المثقفة المفترضتين على السواء، تكشف عن حضور شبح «الدولة السلطانية» بقوة في مخيال هذه النخب، فالجميع يبحث عن «سلطان» بديل عن الدولة والقانون، وعن «رعايا» في حضرة راع يطاع ولا يعصى، هو المالك لهم والقائم في امورهم عليهم كما يصفه ابن خلدون، ليس في الدولة وحسب، بل في البنى الاجتماعية والسياسية والمؤسساتية أيضا، باستثناء الحالات التي تحكمها تحيزات الشخصية تجعلها تخاتل شبحها قليلا!
العناوين الاكثر قراءة









 

العودة إلى المقالات