تعاني في هذه الأيام مدينة النَّاصرية، مركز محافظة ذي قار، بمناسبة ذكرى تشرين(2019)، ما يُذكر بالمجازر التي تعرضت لها ساحات الاحتجاجات، وحصة هذه المدينة كانت الأكبر، فأُخذ يشهر بوجوه المحتجين بشعار “نريد وطناً”، ومحاسبة السفاحين، مادة أربعة إرهاب، ومطاردات، ونداء المتظاهرين اليوم أضيف له كشف اللّثام عن القتلة، من الميليشيات، وهي قضية لا تخمد بهذه البساطة مثلما تعتقد الأحزاب الدّينية وميليشياتها، وتبقى خيمة أمِّ المغيب سجاد العراقيّ، المنصوبة منذ خمس سنوات كعبةً للمحتجين.
لقد كسر أحد النّواب الخوف، الذي جثم على العراقيين، مِن اغتيال وقتل بيد الميليشيات الإيرانيَّة، وهو ممن خالف الأحزاب الدّينيّة، وتمكن مِن دخول البرلمان العِراقي مع مَن رفعتهم الاحتجاجات، ولأول مرة يشار إلى جهة القتلة، وبلسان فصحيح، لعله يهز قصبة القضاء والإدعاء العام العراقيّ، أو المنظمات الدُّوليّة، فقتل ثمنمئة عراقيّة وعراقيّ، والغالب منهم كان في عزِّ الشباب(2019)، إذا لم تُعد هذه الواقعة إبادة جماعية، فلا تتحدثون عن قبور جماعية، وشهداء أحزاب دينية وسياسية بيد النّظام السّابق، فالدِّماء واحدة.
قبل ذِكر كلمة النَّائب سجاد سالم، في قتل المتظاهرين العراقيين، نقول القتلة مِن الإسلام السّياسيّ، يقولون بشرعية القتل، مع اختلاف مصادر الفتاوى. هذا، وقد يُرجى مِن كلّ قاتل التّراجع والاستغفار عن الدَّم الذي سفحه؛ إلا القاتل باسم الدّين، فهذا إن تراجع واستغفر فيُعد، وفق فهمه للواجب الدِّينيّ المقدس، تراجع عن طاعة الله، لأنه ما قتل أحداً إلا في سبيله، وهو خلاف بقية القتلة، ينام ملأى جفونه، مطمئناً، فما قتل إلا بفتوى، أو أمر ديني، صدر مِن أميره، في حالةالجماعات السّياسيّة السُّنيَّة، ومرجعه في حالة الجماعات السّياسيَّة الشّيعيَّة، وهم وحدهم يجيزون القول: المقتول قُتل لكفره، مستحقاً عقابه، وإن كان بريئاً فيدخل الجنة، وفي هذا الأمر، ليس أشهر مِن تصريح صادق خلخالي(تـ: 2004)، الذي عينه روح الله الخمينيّ(تـ: 1989) قاضياً للثورة، وأيده بشراهة الإسلاميون السُّنة، عندما كتب أحد المأزومين، الكويتي عبد الله النفيسيّ في الهدف الكويتيّ 14/6/1979: “اثخن بهم يا خميني بوركت يداك” 12/4/ 2020 على الرابط:(https://www.almesbar.net /).
إذا قلنا الإسلام السّياسيّ السّني قتل الإيزيدين، وسبا واغتصب الإيزيديات؛ فالقاتل كان تنظيم داعش، وقد لا يعدون داعش مِن إسلامهم السّياسيّ، ولكن الجد كان الإخوان، والأب تنظيم القاعدة، فمِن أين ظهرت القاعدة إذا لم تكن مِن ظهر عبد الله عزام(اغتيل: 1989)، ومِن أين داعش إذا لم تكن مِن القاعدة.
كذلك الحال ليس هناك إسلام سياسي شيعي إذا لم يكن الأصل مِن حزب الدعوة؛ فهو التنظيم الشيعي المتأثر بالإخوان المسلمين، ومِنه برزت التنظيمات، جماعات وفرادى، ألم يكن آية الله كاظم الحائري فقيه الدعوة، وكتابه “دليل المجاهد”، الذي حوى على ثلاثة عشر ومئتي فتوى قتل واختطاف وسلب، وما زالوا يعتبرونه مرجعاً، مثلما اتخذه جيش المهدي مرجعاً له، فكل الميليشيات، التي تورطت في القتل هذه مِن ذاك الرّحم(يوم كان العراق كافراً: فتوى الحائري في دليل المجاهد.. تترس وقتل أطفال وغسل أموال، 3/2/2023 على الرابط https://www.almesbar.net/).
في “دليل المجاهد” نصب الحائريّ نفسه قاضياً وحاكماً، يستهل ويختم فتاواه بـعبارات: “جوَّزت لكم”، و”نسمح لكم بالقتل”، و”نسمح لكم بقتله”… إلخ، منح لنفسه مطلق الصّلاحيات، يتصرف في الدِّماء والأموال، تحت مبرر “محاربة المؤمنين”. كذلك في “دليل المجاهد” نصب نفسه محصلاً للخمس مِن الغنائم، التي يغتنمها مجاهدوه مِن العراقيين، أرزاق غنائم، مثل أموال توجد في ثياب القتلى، أو المنهوبة مِن البنوك، فكلُّ هذا له خُمسه، لأنَّه الفقيه “الجامع الشَّرائط”!
تصالح في باب القتل وجوازه، الإسلاميان السياسيان، السُّنيّ والشِّيعيّ، فالقاعدة وداعش اتخذت مِن فتوى إباحة قتل المتترسين(الذين لا علاقة لهم وغير مستهدفين لكنهم وجدوا أنفسه بين مستهدفين أو مع مستهدف في مكان واحد فقتلهم مشروع)، في وصايا الجهاد، واشتهرت عن الشَّيخ أحمد بن تيمية (تـ: 728هـ)، ونصها: “فإن الأئمة متفقون على أنَّ الكفار لو تترسوا بمسلمين، وخيف على المسلمين، إذا لم يقاتلوا: فإنه أنْ نرميهم، ونقصد الكفار..” (النَّجدي، فتاوى الشَّيخ ابن تيمية)، أطلقت في ظرف اجتياح المغول في ذلك الزَّمن، نجد عدو ابن تيمية محمد كاظم الحائري ينهل منه، ويتفق معه و يحدو حدوه في القول بـ”التترس”؟! وقد زاد عليه اعتبار العراقيين كفاراً، ما عدا “المؤمنين” وهم ميليشياته، مع أنَّ الحملة الإيمانيّة كانت قائمة رسمياً بالعراق على قدمٍ وساق، ومظاهر التَّدين شائعة إلى حدٍ كبير؛ وهذه واحدة مِن اتفاقات قتلة الإيزيدين وقتلة المتظاهرين، وما حصل مِن تفجير السّفارات والمؤسسات، وووقائع دمويَّة راح الأبرياء بها ضحايا.
ليس أوضح، ولا أبين، مِن أفاعيل الإسلام السّني، الممثل بداعش، في قتل وسبي الإيزيديين، فقد كانت كارثة أممية، وما زال الضَّحايا، مِن الأحياء مكدسين في المعسكرات، وما زالت داعش تُستخدم لتبرير وجود السّلاح المنفلت، والتَّطاول الطّائفيّ، هناك مقدمات تؤكد التَّواطئ بين الإسلاميَن، السّني الممثل بداعش والشِّيعي الممثل بالأحزاب الدينية، في التواطئ، منها على سبيل المثال، تحويل مبلع أربعمئة مليار دينار عراقي، مِن البنك المركزي العراقيّ ببغداد، إلى فرعه بالموصل قبل يومين مِن اجتياح داعش للموصول، وكانت التحذيرات على أشدها؟ في يومها كان القائد العام من حزب الدعوة، ومحافظ البنك من الحزب نفسه، ناهيك عن تهريب قادة المتطرفين والإرهابيين مِن السُّجون حينها (2014).
نأتي على تصريح النائب سجاد سالم، في البرلمان العراقي، علانيّة مع معرفته بالمخاطر التي حوله، فكم مخطوف ومغتال بين مَن يتهمهم النائب المذكور، لكن ربما لاذ بالحصانة البرلمانية، وبالحماية التي يوفرها له مركزه، وهذا ما كان لغيره.
قال: “إنَّ الجرائم لقتل المتظاهرين(يقصد الثمنمئة) ليست تصرفاً فرديّاً وآنياً، بل يقف خلفها إتجاه سياسيّ كامل، أفتى وحرض ونفذ، وأنا أقول، وأتحمل المسؤولية كاملةً: بأنَّ الإسلام السّياسيّ الشِّيعيّ؛ بناءً على ذلك يجب أن يكون الشّعار السّياسيّ الرئيسيّ، هو حظر وتجريم السّلاح خارج إطار الدَّولة، ودمج مؤسسة الحشد الشَّعبيّ بالقوى الأمنية، لمنع إيران مِن ممارسة هيمنتها ونفوذها، عبر بعض وكلائها، مِن قادة الفصائل والميليشيات”(المرصد العراقي لحقوق الإنسان).
كذلك قال النّائب التشريني سجاد سالم، الذي رُفعت ضده قضية تخص الحشد الشّعبي: “يجب أن ندرُك إننا في الوقت الحالي، الوقت الرّاهن، ومع هيمنة إيران على العِراق، إننا في مرحلة ثورة مضادة، استهدفت كلّ رؤى التغيير، وكلُّ طموحات التَّغيير، وركزت بشكل أساسي على الجامعات العراقيّة، التي كانت كما تذكرون ونتذكر جميعاً، أنها حاضنة الثّورة، وتم تسليمها إلى الميليشيات، والتي باعتها بالجملة إلى إيران، ويجب أن ندرك أنَّ آليات ووسائل هذا النّظام لتحقيق العدالة معدومة، بعد الهيمنة التي ذكرناها إلى هذه الدَّرجة الكبيرة، لذلك لابد وعلى قناعة، وعن عمل، وعن رؤية، في هذا الملف، أن يكون الجهد الدّولي حاضراً، في التحقيق والمحاكمة، إذ لا عِقاب ولا عدالة أصلاً موجودة في العِراق”(المرصد العراقي لحقوق الإنسان).
لا أحد له التغافل عن تظاهرات تشرين، ومع ما لحقها مِن تشويه وشيطنة، إلا أنها كانت موجهة ضد الفساد، وضد حكم وعنفوان الميليشيات، وقد تم تصفيتها بشكل محترف، وذلك بظهور معممو الإسلام السياسي، وكان في مقدمتهم الولي الفقيه الإيراني، معتبرهم أصحاب “فتنة”، وخطيب جمعة طهران محمد علي موحدي سماهم “شيعة الإنجليز”، وفي هذا ضوء أخضر لتصفيتهم، فشُكلت غرف عمليات لتصفيتهم، وقد ظهر مؤسس كتائب حزب الله بالعراق يقول بالصوت والصورة: “علينا بالرؤوس”، مع الحكومة المتواطئة مع الميليشيات لقتل مَن استطاعوا قتله القناصين، ثم ملاحقتهم، لتشتيتهم بين اختطاف واغتيال، ومَن سلم هرب خارج الحدود.
تبقى قضية تشرين، وضحايا الميليشيات، حيَّة، وهي الآن تعود بالناصريَّة، وقد تخمد لكنها ستثور، وهذ قضية لا تقل شأناً عن أيّ قضايا القتل الجماعي، وربّما يضطر ذوو ورفاق المقتولين السُّكوت لأنه الحراك بعينه، وللشيخ محمَّد باقر الشّبيبيّ(تـ: 1960): “ليس السُّكوت مِن الخنوعِ وإنّما/ هذا السُّكوت تجمعٌ وتحشدُ”(عزّ الدِّين، الشّعر العراقيّ الحديث). ختاماً نقول: قاتل الإيزيديين السُّني شقيق ورفيق قاتل المتظاهرين الشِّيعيّ، خرجا مِن رحمٍ واحد هو الإسلام السّياسيّ.