بغداد ـ «القدس العربي»: في الذكرى السنوية الخامسة لانتفاضة تشرين الإصلاحية، شهدت مدن العراق حوادث ومؤشرات على استعداد الشباب على مواصلة الانتفاضة، رغم استمرار الملاحقات لناشطي تشرين، بالتزامن مع الشعور بغياب العدالة واستمرار إفلات قتلة المتظاهرين من العقاب.
وتجددت في بغداد والعديد من مدن العراق تجمعات وتظاهرات للإعلان عن التمسك بمبادئ الحراك الشعبي وعدم التراجع عن المطالبة بإجراء الإصلاحات الجذرية في العملية السياسية، وسط صدامات وحملة اعتقالات وقعت في بعض المدن بين الناشطين والقوات الأمنية.
وفي ساحة التحرير وسط العاصمة بغداد تجمعت حشود من الأحزاب والحركات والناشطين، لإحياء الذكرى السنوية الخامسة لاحتجاجات «25 تشرين الأول/اكتوبر 2019» التي استمرت لأكثر من عام وسط تمجيد أرواح أكثر من 600 شهيد ونحو 25 ألف جريح ومفقود سقطوا خلالها من أجل الوطن وحقوق الشعب.
وشاركت في هذه التجمعات حشود كبيرة من الناشطين وبعض الأحزاب الوطنية، أبرزها حركة امتداد التي تضم عددا من النواب والناشطين، و«حركة نازل آخذ حقي» والحركة المدنية، والبيت الوطني، وحزب الريادة، إضافة إلى الحزب الشيوعي العراقي، وغيرها من الحركات والتنظيمات السياسية والحقوقية والشعبية المعارضة.
وفي تضامن مع انتفاضة تشرين أكد رئيس الوزراء الأسبق ورئيس حزب الوفاق الوطني، أياد علاوي، «أن ثورة تشرين صرخة وطنية عبّر بها شباب العراق عن حلمهم بوطن خالٍ من ألفساد والطائفية». وقال علاوي، في تدوينة إن «ثورة تشرين التي تمر ذكراها الخامسة هذه الأيام، لم تكن مجرد مظاهرات احتجاجية عابرة، بل صرخة وطنية عبّر بها شباب العراق عن حلمهم بوطن خالٍ من الفساد والطائفية، ورفعوا راية السلمية والإخلاص للوطن في وجه التحديات» داعيا إلى محاسبة المتورطين بالاعتداءات على المتظاهرين السلميين وتقديمهم للعدالة.
واندلعت التظاهرات الاحتجاجية في تشرين الأول/اكتوبر سنة 2019 احتجاجاً على التردّي الشامل لأوضاع للبلد، وانتشار الفساد المالي والإداري والبطالة، وانتهاكات حقوق الإنسان، إضافة إلى الدعوة لإبعاد الأحزاب الفاسدة والفصائل المسلحة ورفض التبعية للخارج. ونجحت تلك التظاهرات في ضم الملايين من العراقيين في المدن العراقية إلى الحراك الشعبي للمطالبة بإجراء الإصلاح السياسي. وبسبب الضغط الشعبي اضطرت حكومة عادل عبد المهدي إلى الاستقالة، كما أجبرت البرلمان على إجراء إصلاحات عاجلة لامتصاص الغضب الشعبي العارم أبرزها الإعلان عن النية بتعديل الدستور وقانون الانتخابات وخفض رواتب المسؤولين الهائلة، ولكنها قوبلت بعنف مفرط أدى إلى سقوط آلاف الضحايا.
صدامات وملاحقات لناشطي تشرين
وفي مؤشر على امكانية تجدد الانتفاضة شهدت محافظة ذي قار جنوب العراق، تظاهرات عارمة لآلاف من الناشطين والمتظاهرين وسط ساحة الحبوبي في مدينة الناصرية لإحياء ذكرى التظاهرات الاحتجاجية التشرينية والتأكيد على مطالبهم في الإصلاح ومحاسبة المتهمين بقتل المتظاهرين.
ووقعت الاشتباكات والصدام بين المتظاهرين والقوات الأمنية في ساحة الحبوبي مركز التجمع وفي بعض الشوارع، حيث استخدمت القوات الأمنية الرصاص الحي والقنابل الدخانية، فيما استخدم المتظاهرون الحجارة وحرق الإطارات وقطع الطرق، ما إدى إلى إصابات منها إصابة 18 من القوات الأمنية حسب شرطة الناصرية، إضافة إلى إصابات بين المتظاهرين في الصدامات التي استغرقت عدة ايام وتوقفت بعد وساطة من شيوخ العشائر وبعض النواب.
وصرح العديد من النشطاء والمتظاهرين لوسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، أن تظاهرة الناصرية تأتي في ظل تعرض عدد كبير من الناشطين إلى الاعتقالات في إطار حملة أمنية يشنها رئيس الشرطة الجديد في المحافظة وللمطالبة بإطلاق سراحهم وإسقاط الدعاوى القضائية الكيدية بحقهم.
وأكد الناشطون أن حملة الاعتقالات هي استهداف لناشطي تشرين، حيث ان أغلب مذكرات الاعتقال ضد الناشطين تستند إلى قيامهم بقطع الطرق وإحراق الإطارات في الشوارع خلال الاحتجاجات، وليس بسبب جرائم جنائية. فيما اتهم آخرون، السلطات الأمنية بممارسة التعذيب ضد معتقلي تشرين، مشيرين إلى قيام الفصائل المتغلغلة في الأجهزة الأمنية بقمع المتظاهرين لإسكات الأصوات المعارضة، مجددين المطالبة بالكشف عن قتلة المتظاهرين ومصير الناشطين المغيبين، وعلى رأسهم الناشط المدني سجاد العراقي.
وفي محافظة ميسان جنوب العراق نظم المتظاهرون وقفة قرب المقبرة الرمزية لضحايا تظاهرات تشرين مستذكرين رفاقهم الذين سقطوا خلال المظاهرات التي وصفوها بالأنقى بتاريخ العراق، فيما تجمع أهالي سوق الشيوخ في ذي قار، لإحياء ذكرى الانتفاضة، بافتتاح جدارية لصور ضحايا الانتفاضة من أبناء المدينة، ضمن احتفالية أقيمت قرب ساحة الصناعة عند مدخل المدينة، معبرين عن التقدير للتضحيات الجسيمة التي قدمها الشهداء من أجل الوطن وأحلامه.
ويؤكد الناشطون بانهم مصرون على مواصلة تحقيق أهداف حراك تشرين بإصلاح الأوضاع وخاصة المطالبة بايقاف الملاحقات ضد نشطاء تشرين ومعاقبة مرتكبي الجرائم ضد المتظاهرين، كما يهددون دائما بامكانية عودة ذلك الحراك ما دامت مبرراته موجودة.
طلب البحث عن مستهدفي التظاهرات
وازاء ظاهرة إفلات قتلة متظاهري تشرين من العقاب، عبر ناشطون ومنظمات عن التمسك بمطالبة الحكومة العراقية، بملاحقة مرتكبي الاعتداءات على المتظاهرين والناشطين من أجل تحقيق العدالة.
وفي هذا الصدد، دعا مركز «النخيل» للحقوق والحريات (منظمة مستقلة) في ذكرى تشرين، رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، إلى «الكشف عن نتائج التحقيق بأحداث تظاهرات تشرين، حيث مر أكثر من عام على توجيه السوداني بتسريع إجراءات اللجنة المكلفة بالتحقيق في الأحداث التي رافقت تظاهرات تشرين من دون إحراز أي تقدم يذكر وهو ما يعتبر انتكاسة في مسار العدالة» حسب المركز. وأضاف المركز في بيان «كما لا ننسى مئات المغيبين والجرحى والمعاقين الذين ما يزالون يعانون من الأنين والوجع حتى اليوم وهم يفتقدون لأبسط متطلبات الرعاية الصحية».
وليس بعيدا عن هذا الإطار، نظمت في مدينة الناصرية جنوب العراق، والدة الناشط المختطف سجاد العراقي ومجموعة من الناشطين خيمة اعتصام أمام مبنى المحافظة، لمطالبة الحكومة بتحديد مصير الناشط المختطف منذ ايلول/سبتمبر 2020.
وقالت والدة الناشط المختطف في لقاء متلفز تابعته «القدس العربي» إن الحكومة تعرف القائمين بالخطف وإن عائلة المخطوف وزملاءه يعرفون الفاعلين، إلا ان السلطات الأمنية تساهلت معهم، ولذا فهما الآن هاربان إلى دولة مجاورة.
وأكدت والدته انه «رغم لقائي برئيس الوزراء الحالي والسابق وابلاغهم بأسماء الخاطفين ووعودهم بمتابعة قضية ابنهم ورغم متابعة قضيته في المحكمة ولكن بدون نتيجة». وتساءلت «لماذا لم تتخذ الحكومة أية إجراءات تجاه الخاطفين المعروفين؟». في إشارة إلى أن الخاطفين ينتمون إلى ميليشيا متنفذة. وشددت الوالدة وأصدقاؤه، على ضرورة الكشف عن مصيره المجهول والقبض على المختطفين الذين صدرت أوامر سابقة باعتقالهم، ولكنهم تمكنوا من الفرار إلى إيران.
ويذكر أن خيمة الاعتصام، تعرضت إلى إطلاق نار بـ 14 إطلاقة من مجهولين، رغم وجود قوات أمنية منتشرة في المكان، إلا أن والدة الناشط صرحت انها تعرف هوية الذين أطلقوا النار على الخيمة وانها أبلغت السلطات الأمنية باسمائهم وتم إلقاء القبض عليهم ولكن الحكومة أطلقت سراحهم لاحقا دون ذكر المبررات. وكانت محكمة استئناف ذي قار قد أصدرت اواخر ايلول/سبتمبر 2020 مذكرتي اعتقال بحق اثنين من المتهمين باختطاف سجاد العراقي، هما إدريس كريدي حمدان الهصاري وأحمد محمد عبود الإبراهيمي اللذين تشير مصادر المتظاهرين إلى انتمائهما إلى أحد الفصائل المسلحة، ولذا فإن المتهمين لم يتم إلقاء القبض عليهما حتى الآن.
وفي السياق ذاته، عبر ناشطون عن رفضهم استمرار إفلات قتلة المتظاهرين من المحاسبة والعقاب، وذلك بعد قيام بعض المحاكم باطلاق سراح متهمين رئيسيين بارتكاب جرائم ضد المتظاهرين والناشطين.
فقد قررت محكمة التمييز الاتحادية الإفراج عن الضابط في قوات التدخل السريع عمر نزار بعد صدور حكم سابق بحقه بالسجن المؤبد لمسؤوليته عن ارتكاب القوات الأمنية مجزرة جسر الزيتون في الناصرية ضد المتظاهرين. وجاء القرار لعدم كفاية الأدلة المتحصلة وإخلاء سبيله عن هذه القضية وإشعار إدارة السجن بذلك.
وكانت محكمة الجنايات في محافظة ذي قار، دانت نزار، في حزيران/يونيو 2023 بتهمة «إصدار الأمر بإطلاق الرصاص الحي على متظاهرين فوق جسر الزيتون في الناصرية، ما تسبب في وقوع قتلى وجرحى» وفقا لقرار محكمة الاستئناف الاتحادية.
وفي قضية أخرى، سبق لمحكمة عراقية، أن برأت ضابط شرطة أدين وحكم عليه بالإعدام لقيادته مجموعة قتلت بالرصاص، المحلل الأمني والمستشار الحكومي المعروف هشام الهاشمي قبل أكثر من أربع سنوات في بغداد، وذلك عقب قيامه بتوجيه انتقادات إلى الميليشيات المسلحة الموالية لإيران التي تهاجم قواعد يتواجد فيها خبراء وجنود التحالف الدولي في العراق.
وقُتل الهاشمي، الخبير في التنظيمات الارهابية ومنها تنظيم الدولة الإسلامية والميليشيات والذي دعا إلى الحد من نفوذ الفصائل الشيعية الموالية لإيران، بالرصاص خارج منزل عائلته في بغداد في السادس من تموز/يوليو 2020 عندما أمطره مسلحون يستقلون دراجة نارية بوابل من الرصاص فأردوه قتيلا. وقد أعلنت الحكومة فيما بعد، إلقاء القبض على القاتل الذي اعترف في عرض تلفزيوني بارتكابه جريمة القتل، ولذا حكمت عليه المحكمة بالإعدام.
إلا أن العراقيين تفاجأوا لاحقا باصدار محكمة أخرى في بغداد الحكم عليه بالبراءة بعد إعادة المحاكمة. وقال أحد محاميي محكمة الجنايات الذي حضر الجلسة، إن المحكمة أسقطت التهم الموجهة إلى أحمد حمداوي «لعدم كفاية الأدلة» وقالت إن «اعترافاته السابقة لا تصلح للإدانة» وتم إعادته لوظيفته في وزارة الداخلية. واعتقلت القوات الحكومية مطلق النار (أحمد حمداوي الكناني) في ذلك الوقت، حيث تبين انه ضابط شرطة برتبة ملازم أول منسوب إلى وزارة الداخلية، وقد اعترف بأن ميليشيا معروفة استأجرته لقتل الهاشمي.
ويرى مراقبون وناشطون أن إطلاق سراح الضباط المتهمين بالاعتداءات على المتظاهرين والناشطين، سببه عدم جدية الحكومة بملاحقة مرتكبي تلك الجرائم، وذلك يعود لكون اولئك الضباط ينتمون إلى ميليشيا متنفذة في الحكومة ومتغلغلة في الأجهزة الأمنية لذا يتم تغيير التهم ونقض الحكم وإطلاق سراحهم لاحقا.
وعود الحكومة وغياب العدالة
وعن تراجع الحكومة والبرلمان عن القرارات التي أصدروها أثناء الانتفاضة، تحدث الناشط التشريني البارز والقيادي في الحزب الشيوعي جاسم الحلفي لـ«القدس العربي» قائلا «إن غياب العدالة وعدم جدية الحكومة في محاسبة قتلة المتظاهرين، تفقد الدولة هيبتها، وترسل رسالة بان الانتهاكات بحق المواطنين يمكن ان تمر من دون محاسبة ما يزيد من الشعور بانعدام العدالة لدى المواطنين».
وشدد الحلفي «بان أسباب انتفاضة تشرين في العراق ما زالت موجودة ولم تعالج من السلطات بشكل جدي ولعل أبرزها استمرار تفشي الفساد المالي الإداري الذي يعد المعرقل الكبير أمام تطور العراق حيث تسيطر شبكات الفساد على مفاصل الدولة وثرواتها». كما أشار إلى أسباب هامة أخرى «منها القيود على الحريات والرأي، وضعف العدالة الاجتماعية، وتردي الخدمات العامة كالكهرباء والرعاية الصحية والتعليم وانتشار الفقر والبطالة بين المتعلمين وغيرهم، إضافة إلى سيطرة الأحزاب والفصائل المسلحة التي تمارس ضغوطا على الدولة وافتقار الحكومة للاستقلالية في القرارات الوطنية».
وكشف جاسم الحلفي «أن أسباب تراجع الحكومة عن وعودها الإصلاحية، تعود إلى طبيعة البنية السياسية للقوى الحاكمة وضعف الإرادة السياسية لديها، التي لا تراعي الاستجابة للمطالب الشعبية لذا تراجعت عن وعودها وقراراتها الإصلاحية، مستندة إلى فصائلها المسلحة لمواصلة السيطرة على مرافق الحكومة جميعها والقوات الأمنية. كما ان الثقة مفقودة بين الشعب والقوى المتنفذة حول قدرتها على إدارة الدولة. وقد كانت رسالة سلبية للمطالب الشعبية عندما تراجعت الحكومة والبرلمان عن تلبية تلك المطالب ما زاد في الاستياء الشعبي». وشدد على أن عدم تنفيذ الحكومة لتعهداتها بمحاسبة قتلة المتظاهرين كشف غياب العدالة وسطوة الفصائل وقوض الأمل بقدرة الدولة على الإصلاح، و«هذه القضايا جميعها وغيرها دفعت الناس للاحتجاج» محذرا من «أن عدم الاستجابة إلى المطالب الشعبية قد يؤدي إلى موجة جديدة من الاحتجاجات لانتزاع حقوق الشعب».
وفيما إذا حققت الانتفاضة أهدافها أشار إلى أنها لم تحقق كل أهدافها ولكنها بداية هامة نحو تحقيق التغيير المنشود، حيث ساهمت ضغوطها في تغيير الوعي العام حول أهمية الإصلاح وكشفت فساد الأحزاب واستعدادها لقمع المعارضين، كما أدت إلى استقالة الحكومة آنذاك، وزيادة في المحاسبة والعدالة ولو بشكل محدود، مستدركا أن الواقع يشير إلى عدم تراجع قبضة الأحزاب والفصائل والقوى السياسية في التحكم بالسلطة.
ولا يختلف المراقبون المحايدون بأن انتفاضة تشرين تعد نقلة نوعية في المعارضة السياسية في عراق ما بعد 2003 وانها عبرت عن رغبة عارمة لدى الشعب لتغيير الواقع المتدهور وإجراء الإصلاحات الجذرية في العملية السياسية لتحقيق العدالة والمساواة وصيانة الحريات، والحفاظ على ثروات البلد وابعاد الفاسدين عنها. كما أن إحياء ذكرى تشرين هو تقدير لتضحيات ودماء الشباب الساعين نحو بناء وطن أفضل، وإصرار على تحقيق الأهداف بالرغم من القمع والملاحقات المتواصلة. وإذا كانت الاحتجاجات الواسعة في العراق قد انخفضت الآن، فهذا لا يعني بأن جذوة تشرين قد انطفأت، ولكنه الخوف من القمع والأعمال الانتقامية والإجراءات القانونية، التي ساهمت في الحد منها إلا انها لن تنهيها بالتأكيد لأنها قضية مصيرية للشعب تتعلق بحقوقه وحرياته.