تقول وسائل إعلام بريطانيّة إن عَلَمَ الولايات المتحدة الأمريكيّة الذي رُسِم منذ سنوات طويلة على أرضيّة مدخل المجمع الرئاسي في العاصمة الإيرانيّة طهران – بحيث يضطر الداخلون والخارجون إلى الدّوس عليه كإهانة مستدامة للشيطان الأكبر – قد تمت إزالته بهدوء قبل أيّام من حفل تنصيب الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب رئيساً لولاية ثانية.
وأكدت الوسائل أن لا جهة رسميّة تطوعت بتقديم تفسير للقرار المفاجئ، الذي يبدو، وكأنّه رمز عميق المعنى لتحوّل نوعيّ مسّ منهجيّة طهران في ما يتعلق بالتعامل مع الولايات المتحدة والغرب عموماً. فهل ابتلع النظام الإيراني فصاحته الثوريّة، وارتدى عباءة البراغماتيّة لعلّه ينجو بنفسه من تقاطع ترامب – نتنياهو القاتل؟
الشرق الأوسط أفق استراتيجي متغيّر
لم يخف مسؤولون إيرانيون في مستويات تأثير متعددة رغبتهم في تجنب بلادهم مواجهة سافرة تالية مع الولايات المتحدة بشأن المشروع النووي الإيراني، لا بل وتحدث بعضهم عن استعداد صريح لفتح الأبواب أمام صفقة شاملة مع الرئيس القديم / الجديد دونالد ترامب، تشمل في ما تشمله، شراكات في قطاعي النفط والغاز، بالإضافة إلى استثمارات مشتركة ممكنة في القطاعات الأخرى.
ولا بدّ أن رداء البراغماتية الذي تجتهد طهران كي تُرى وقد تلفعت به لم يتم نسجه بلا مبررات. إذا أن ضغوط الحصار الدّولى على النظام الإيراني – الذي تقوده وتراقب تنفيذه الولايات المتحدة – والممتد عبر عقود قد أنهك إلى حد بعيد بنيتها التحتيّة وأضعف قدراتها على استغلال موارد البلاد أو تلبية الاحتياجات المتزايدة لـ90 مليوناً من مواطنيها. كما أن المحادثات مع الغرب بشأن المشروع النووي الإيراني وصلت إلى حائط مسدود، ناهيك بالطبع من الانقلاب الصاعق لموازين القوى في الشرق الأوسط بعد الضربات المدمرة التي وُجهت إلى شركاء إيران الإقليميين في غزة ولبنان من قبل الدّولة العبريّة، وتدمير الطيران الإسرائيلي لأنظمة الدّفاع الجوي الإيرانية، بعد جولة قصف متبادل، لتصل التحولات ذروتها مع إسقاط نظام الأسد في دمشق ما قطع خط التواصل البري بين طهران وبيروت بشكل حاسم .
ولكن الأهم من ذلك كلّه شعور الارتعاد الذي يصيب المسؤولين الإيرانيين عندما يمر أمامهم شريط ذكريات علاقة طهران بواشنطن خلال ولاية الرئيس ترامب الأولى (2016- 2020).
طهران وترامب الأوّل: ذكريات مريرة
كان ترامب في ولايته السابقة قد تخلى عن الاتفاق النووي الذي وقعته طهران مع الغرب في عهد الرئيس الديمقراطيّ باراك أوباما العام 2015، وكثّف العقوبات الاقتصادية والدبلوماسيّة في إطار حملة لخنق النظام الإيراني وتجفيف موارده الماليّة، وكانت هناك مخاطر مرتفعة من إمكان تعرّض المنشآت النووية الإيرانية في أيّة لحظة إلى استهداف إسرائيلي / أمريكي مشترك، لا سيما بعدما أمر ترامب عام 2020 باغتيال الجنرال الإيراني المهم قاسم سليماني في بغداد، ولذلك كانت طهران من أشد عواصم العالم حبوراً عندما أسفرت الانتخابات الرئاسيّة نهاية عام 2020 عن سقوط ترامب وفوز متحديه الديمقراطي جو بايدن. ومع أن الأخير لم يكن كثيراً من الود للنظام في طهران، إلا أنّه خفف الضغوط على صادرات النفط الإيراني – التي يذهب أغلبها إلى الصين، وصمد أمام ضغوط مكثّفة من رئيس الوزراء الإسرائيلي لإطلاق هجوم استراتيجي إسرائيلي-أمريكي مشترك بهدف استئصال المشروع النووي بصفة نهائيّة.
هل يبرم ترامب صفقة العمر مع طهران؟
لم يكف النّظام الإيراني عن إرسال الإشارات الإيجابيّة إلى الغرب طوال الفترة الماضيّة، فتوافق مع المملكة العربيّة السعوديّة على نزع فتيل الخلافات بينهما وتوصلا إلى تسوية فتحت آفاق التنسيق إن لم يكن التعاون حول ملفات عديدة، وعظّم كذلك علاقاته بجاراته الخليجيات وبخاصة قطر والإمارات وعُمان، وأظهر حسن نيّة أيضاً عندما اضطر للرد على انتهاكات إسرائيليّة متكررة لسيادة البلاد من خلال هجمات محدودة الإيذاء ومحسوبة بدقة كي تتجنب إصابة المدنيين مع إعطاء إنذار مبكّر عبر القنوات الديبلوماسيّة مع الغرب، وتجنّب التورط في المعركة الأخيرة ضد النظام السوري وسحب قواته من هناك بسرعة قياسية، وهو الآن يتقصد إظهار مفاتنه البراغماتية لجلب أنظار ترامب تحديداً، مع إدراكه بأن الأوروبيين لن يكونوا في صف الإيرانيين هذه المرة – كما كانت الأجواء عشية توقيع الاتفاق النووي السابق- بل لديهم الآن قائمة شكاوى طويلة من سلوك النظام الإيراني تبدأ بالتوسع المستمر في النشاط النووي، ولا تنتهي عند مبيعاتها من الدرونات لروسيا، مروراً باتهامات من أطراف أوروبيّة عديدة بالتآمر لإثارة قلاقل في مجتمعاتها.
المفاجئ أنّ ترامب لا يبدو مستعجلاً هذه المرّة لفتح معركة مبكرة مع طهران، وثمة تلميحات من معسكره إلى أنه قد يكون على استعداد للمساومة، وقد كلف مبعوثه للشرق الأوسط ستيف ويتكوف باستكشاف ما إذا كان توافق دبلوماسي مع إيران أمراً ممكناً، قائلا الأسبوع الماضي إنه «سيكون من الجيد حقا أن يتم حل (التوترات) مع إيران»، أي بشأن برنامجها النّووي. على أن آخرين يقولون إن تلك مناورة تستهدف إبقاء ورقة إيران في جيب ترامب بينما يدير الصراعات الرئيسيّة للإمبراطوريّة الأمريكيّة مع روسيا والصين. فإذا احتاج للضغط على نظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للقبول بتسوية ما تنهي الصراع في أوكرانيا فقد يلجأ إلى تقريب إيران مقابل تخليها عن العلاقة الخاصة بروسيا ما يزيد من عزلة موسكو، أو إذا قرر التصعيد مع الصين فسيخنق إيران لوقف صادرات النفط الرخيص التي تمد بها الصناعات الصينية بأقل من أسعار السوق.
صراع فيلة الشرق الأوسط: العرب في دور الحشائش
في موازاة الغزل الإيراني – الترامبي، ومع تمدد نفوذ تركيا في جوارها السوري والعراقيّ، وشعور إسرائيل بفائض من الثقة بعد تدمير قطاع غزة، وتفكيك المقاومات في الضفة الغربيّة، وتحجيم حزب الله في لبنان، وسقوط نظام الأسد في سوريا فإن الجليّ أن صراعات القوى المؤثرة في منطقة الشرق الأوسط مستمرة وتجري تصفية حساباتها من رصيد الشعوب العربيّة التي تبدو أقرب دائماً للعب دور الحشائش في صراعات الفيلة. ولذلك فإن الدول العربيّة الفاعلة مطالبة الآن وأكثر من أي وقت مضى بأن تتخذ خطوات نحو بناء آليات تنسيق مكثف لتوحيد مواقف العواصم العربيّة تجاه الضغوط التي تتعرض إليها من مختلف الجهات والأطراف: حلفاء ومنافسين وأعداء. وبدون ذلك، فنحن مقبلون على أربع سنوات عجاف صعبة، وقد تتبعها أربع أو حتى ثمانٍ أخرى إذ أن الترامبيين يتعاملون وكأنهم باقون مطولاً ويريدون إعادة صياغة العالم وفق رؤيتهم الضيقة.
إعلامية وكاتبة – لندن نديى حطيط