ad
مفارقة القوة الكامنة والواقع المُشتت
منذ ما يزيد عن أربعين عاماً ونفسي تحدثني عن فرضية قوية وذات صدى عميق في الوعي العربي. فالعالم العربي، الذي يمثل كتلة سكانية وجغرافية ولغوية متصلة تمتد من المحيط الأطلسي إلى بحر العرب، يمتلك بالفعل كل مقومات القوة العظمى تقريباً؛ ومنها المساحة الشاسعة ذات المكانة الااستراتيجية، والسيطرة على ممرات مائية عالمية حيوية، وموارد هائلة من الطاقة والمعادن، ورأسمال بشري شاب ومتنامٍ، وإرث مشترك من اللغة والثقافة والتاريخ. ومع كل ذلك لا يُظهِر الواقع الذي نعيشه إلا التشرذم، والصراعات الجانبية، والإمكانات غير المحققة. وهذا التناقض الصارخ يطرح السؤال الجوهري والمحوري:
ad
لماذا نمتلك كل هذا المخزون الكامن من العظمة الاقتصادية والتاريخية والاجتماعية والثقافية، لكننا نعيش واقعاً لا يليق بهذه المقومات في أعيننا وأعين العالم من حولنا؟
لفهم هذه المفارقة، لا بد من الغوص في جذور الفرقة التي نشأت واستمرت، واستكشاف التبعات الواقعية – سواء المكاسب الهائلة أو التحديات الجسيمة – التي قد تترتب على توحيد هذه الدول الاثنتين والعشرين في كيان سياسي واحد. إن الإجابة عن هذا السؤال تتطلب رحلة عبر التاريخ الذي صاغ حاضرنا، وتصوراً جريئاً للمستقبل الذي يمكن أن يكون.
ad
البصمة الاستعمارية: كيف رُسِمت خريطة الفرقة؟
لم تكن الخريطة السياسية الحالية للعالم العربي نتاجاً لتطور عضوي طبيعي، بل هي إلى حد كبير بناءٌ حديث وُلد من رحم رماد الدولة العثمانية، وصاغته الطموحات المتنافسة للقوى الاستعمارية الأوروبية. ولفهم عمق الانقسامات الحالية، يجب العودة إلى اللحظات التي تمت فيها هندسة هذه التجزئة.
1) اتفاقية سايكس-بيكو (1916): الحبر الذي رسم حدود الدم تُعد هذه المعاهدة السرية بين بريطانيا وفرنسا الرمز الأبرز لسياسة رسم الخرائط الاستعمارية. فمع انهيار الإمبراطورية العثمانية، رسمت القوتان خطوطاً تعسفية على خريطة الهلال الخصيب، مُقَسِّمَتَيْنِ مناطق النفوذ بشكل تجاهل تماماً الحقائق العرقية والطائفية والقبلية والجغرافية. ومن رحم هذه الاتفاقية وُلدت الكيانات التي أصبحت لاحقاً العراق وسوريا ولبنان والأردن. ولم تُصمم هذه الحدود لخدمة مصالح السكان، بل لضمان المصالح الاستراتيجية والاقتصادية للندن وباريس.
2) نظام الانتداب: ترسيخ الاختلافات المؤسسية بعد الحرب العالمية الأولى، أضفت عصبة الأمم طابعاً رسمياً على هذا التقسيم عبر نظام الانتداب. فسيطرت بريطانيا على العراق وفلسطين وشرق الأردن، بينما سيطرت فرنسا على سوريا ولبنان. نتج عن ذلك فرض أنظمة إدارية وقانونية وتعليمية متباينة. فنشأت في دول المغرب العربي نخب فرانكفونية وأنظمة قانونية نابليونية، بينما تأثر المشرق بالقانون العام البريطاني والنخب الناطقة بالإنجليزية. فخلقت هذه المسارات المتباينة اختلافات مؤسسية عميقة لا تزال قائمة حتى اليوم.
3) وعد بلفور (1917) وتأسيس الكيان الصهيوني (1948): جرح دائم في قلب الأمة إن الوعد البريطاني بدعم إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وما تلاه من تأسيس الدولة الصهيونية وتشريد جماعي للفلسطينيين (النكبة)، قد أدخل صراعاً دائماً وشديد الاستقطاب في قلب المنطقة. وللمفارقة، فقد أصبح هذا الجرح أقوى صيحة وحدوية عاطفية في العالم العربي، وفي الوقت نفسه أحد أبرز مصادر انقسامه. فقد كشفت الحروب العربية-الصهيونية عن الضعف العسكري والسياسي للدول المجزأة، وأدت الهزائم إلى تبادل اللوم داخلياً، مما عمّق الشقاق بين الأنظمة.
ديناميكيات ما بعد الاستقلال: كيف ترسخت الانقسامات داخلياً؟
إن إلقاء اللوم على الاستعمار وحده يُعد تبسيطًا مُخلًا. فالحدود المصطنعة التي رُسمت خارجياً، تم ترسيخها وتثبيتها لاحقاً بفعل حراكيات (ديناميكيات) داخلية عمّقت الانقسامات وجعلتها جزءاً من الواقع السياسي والاجتماعي.
1) صعود هوية الدولة القُطرية: بعد الاستقلال، ركز القادة الجدد، سواء كانوا ملوكاً أم ضباطاً عسكريين، على بناء الدولة ضمن الحدود الموروثة. تم إنشاء جيوش وطنية، وبيروقراطيات، وأعلام، وأناشيد، وروايات تاريخية وطنية خاصة بكل قُطر. تحوّل الولاء تدريجياً من الهوية العربية الشاملة إلى الهوية الوطنية الجديدة (المصرية، السورية، العراقية). ومع مرور الأجيال، تصلبت هذه الهويات التي ترتكز على الدولة وأصبحت واقعاً راسخاً.
2) الأنظمة السياسية والأيديولوجيات المتباينة: بلغ حلم الوحدة العربية ذروته في الخمسينيات والستينيات تحت قيادة جمال عبد الناصر، لكن أيديولوجيته القومية الثورية شكلت تهديداً مباشراً للملكيات المحافظة. خلق هذا الوضع ما عُرف بـ “الحرب العربية الباردة” بين الجمهوريات “التقدمية” والملكيات “الرجعية”. وحتى تجربة الوحدة بين مصر وسوريا (الجمهورية العربية المتحدة 1958-1961) انهارت بسبب المخاوف السورية من الهيمنة المصرية، مما أبرز الصعوبة الهائلة لدمج كيانين سياسيين حتى عندما يتشاركان ظاهرياً في نفس العقيدة.
3) لعنة النفط والتفاوت الاقتصادي: أدى اكتشاف احتياطيات نفطية هائلة في شبه الجزيرة العربية والخليج إلى خلق صدع اقتصادي هائل داخل العالم العربي. أصبحت دول مجلس التعاون الخليجي من أغنى دول العالم، بينما ظلت الدول المكتظة بالسكان مثل مصر والسودان واليمن فقيرة نسبياً. وقد خلق هذا التفاوت تبايناً جوهرياً في المصالح، حيث لم يعد هناك حافز اقتصادي مباشر لدى الدول الغنية للاندماج مع نظيراتها الأقل ثراءً، خوفاً من أن يعني ذلك إعادة توزيع هائلة لثرواتها.
الدولة العربية المتحدة: ملامح قوة عظمى افتراضية
لنتخيل للحظة أنه تم التغلب على الحواجز التاريخية والسياسية. كيف سيبدو شكل الدولة العربية الموحدة؟ الأرقام والحقائق الجغرافية تشير إلى أنها ستصبح على الفور قوة عالمية عظمى قادرة على إعادة تشكيل النظام العالمي.
الهيمنة الاقتصادية وفي مجال الطاقة:
1) ناتج اقتصادي ضخم: يبلغ إجمالي الناتج المحلي للعالم العربي حالياً حوالي (3.5) تريليون دولار أمريكي (2023). وهذا الرقم، رغم ضخامته، لا يمثل سوى جزء بسيط من الإمكانات الحقيقية في ظل اقتصاد موحد.
2) قوة طاقوية مهيمنة: ستسيطر هذه الدولة على ما يقرب من (45% – 50%) من احتياطيات النفط المؤكدة في العالم، وأكثر من (25%) من احتياطيات الغاز الطبيعي. وهذا يمنحها القدرة على وضع السياسة العالمية للطاقة والتأثير على اقتصادات كل دول العالم.
3) السيطرة على شرايين التجارة العالمية: سيتحكم هذا الكيان في قناة السويس حيث يتدفق أكثر من (12%) من التجارة العالمية، ومضيق هرمز حيث يتدفق (20% – 25%) من استهلاك النفط العالمي، ومضيق باب المندب، حيث تمرمعظم تجارة أوروبا وآسيافي الاتجاهين. وهذه السيطرة تمنحها نفوذاً استراتيجياً واقتصادياً لا يضاهى.
النفوذ الجيوسياسي والعسكري:
1) موقع استراتيجي لا مثيل له: تقع هذه الدولة على مفترق طرق بين إفريقيا وآسيا وأوروبا، وبسواحل تمتد على البحر الأبيض المتوسط، والبحر الأحمر، وبحر العرب، والمحيط الأطلسي. موقعها الجغرافي وحده سيجعلها لاعباً محورياً في جميع الشؤون العالمية.
2) قوة عسكرية هائلة: بجيش موحد، ستكون واحدة من أكبر القوى العسكرية في العالم من حيث العدد. ومن خلال تجميع الموارد، يمكنها تطوير مجمع صناعي عسكري متطور ومستقل، مما ينهي الاعتماد على واردات الأسلحة الأجنبية ويحقق اكتفاءً ذاتياً استراتيجياً.
3) صوت دبلوماسي موحد: بالتحدث بصوت واحد في المنابر الدولية، يمكن للدولة العربية الموحدة الدفاع عن مصالحها بثقل غير مسبوق، وقد تصبح مرشحاً طبيعياً لعضوية دائمة في مجلس الأمن الدولي مع حق النقض (الفيتو).
إطلاق العنان للإمكانات الكامنة: محركات النمو والتنمية
إن قوة الدولة الموحدة لا تكمن فقط في النفط والموقع الجغرافي، بل في التكامل الذي سيطلق العنان لإمكانات اقتصادية وبشرية هائلة لم يتم استغلالها بعد.
1) سوق موحدة عملاقة: إنشاء سوق واحدة تضم أكثر من (450) مليون مستهلك سيزيل الحواجز الجمركية، مما سيؤدي إلى زيادة هائلة في التجارة البينية العربية، التي لا تشكل حالياً سوى نسبة ضئيلة من إجمالي تجارة المنطقة. هذا وحده كفيل بخلق نمو اقتصادي هائل.
2) اقتصادات الحجم الكبير (Economies of Scale): ستسمح الكتلة الاقتصادية الموحدة بتطوير صناعات واسعة النطاق قادرة على المنافسة عالمياً في قطاعات مثل الصناعات التحويلية، التكنولوجيا، والزراعة، بدلاً من وجود صناعات صغيرة ومتنافسة في كل دولة.
3) البنية التحتية والترابط: ستصبح الاستثمارات المشتركة في مشاريع البنية التحتية العابرة للحدود كشبكات السكك الحديدية، وشبكات الكهرباء، وأنابيب المياه، ممكنة وفعالة، مما يعزز الترابط ويخفض تكاليف ممارسة الأعمال التجارية في جميع أنحاء المنطقة.
4) قوة جذب استثمارية: سيصبح العالم العربي الموحد والمستقر وجهة أكثر جاذبية للاستثمار الأجنبي المباشر، مما يجلب رؤوس الأموال والتكنولوجيا. كما سيشجع على زيادة الاستثمارات العربية-العربية، وإبقاء رأس المال العربي داخل المنطقة.
5) حرية حركة العمالة والمواهب: سيسمح الانتقال الحر للعمالة بتوزيع أكثر كفاءة للموارد البشرية، وربط المهارات بالطلب عبر المنطقة، مما يقلل من البطالة ويعكس هجرة الأدمغة التي تعاني منها المنطقة منذ عقود.
6) نهضة ثقافية وعلمية: بتخصيص موارد جماعية هائلة للتعليم والبحث العلمي، يمكن للدولة الموحدة إنشاء جامعات ومؤسسات علمية عالمية المستوى، وإعادة إحياء العصر الذهبي للعلوم والفنون العربية، لتصبح مصدراً للمعرفة والابتكار بدلاً من أن تكون مستهلكاً له.
العقبات الكبرى والإرادة الحرة: بين الحلم والواقع
على الرغم من أن الرؤية مغرية والمنافع المحتملة قادرة على إحداث تحول جذري، إلا أن الطريق نحو الوحدة محفوف بعقبات سياسية وعملية هائلة تتجاوز المظالم التاريخية.
1) معضلة السيادة والحكم: هذه هي العقبة الأكبر. من سيحكم؟ هل ستكون جمهورية فيدرالية؟ أم ملكية دستورية بمجلس ملوك؟ يكاد يكون من المستحيل تصور تنازل الأسر الحاكمة والنخب السياسية الحالية عن سيادتها وسلطتها طواعية لهيئة فيدرالية عليا. هذا هو جوهر التحدي السياسي.
2) التكامل الاقتصادي وتوزيع الثروة: كيف يمكن دمج اقتصاد دولة نفطية غنية (نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ~50,000 دولار) مع اقتصاد دولة أقل نمواً (أقل من 1,000 دولار)؟ سيتطلب الأمر نظاماً هائلاً للتحويلات المالية من المناطق الغنية إلى الفقيرة، وهو أمر قد يثير توترات داخلية كبيرة.
3) توحيد الجيوش والأجهزة الأمنية: إن دمج (22) جيشاً بعقائد تدريبية، هياكل قيادة، ومعدات مختلفة (أمريكية، روسية، فرنسية، صينية) في قوة واحدة متماسكة هو تحدٍ لوجستي واستراتيجي هائل، ومرتع محتمل للصراعات على السلطة والنفوذ.
قوة الإرادة ومسار المستقبل
إن حلم الدولة العربية الواحدة هو استجابة طبيعية لتاريخ من التجزئة والإحباط. ومع ذلك، فإن الانقسامات التاريخية العميقة والحواجز السياسية والاقتصادية المعاصرة تجعل الوحدة السياسية الكاملة هدفاً صعب المنال في المستقبل المنظور. ولكن، وكما ذكرت في مقالات متعدد سابقة: الإرادة الحرة تصنع للإنسان جناحين. هذه الإرادة يمكنها أن تتجاوز المستحيل. وقد لا يكون المسار الفوري هو الوحدة السياسية الكاملة، بل قد يكمن المسار الأكثر واقعية وقابلية للتحقيق في التكامل الاقتصادي والاستراتيجي العميق، على غرار نموذج الاتحاد الأوروبي، مع تكييفه ليناسب واقع المنطقة. إن إنشاء سوق مشتركة حقيقية، وتوحيد المواقف في السياسة الخارجية، والتعاون الأمني، يمكن أن يكون الخطوة الأولى نحو تحقيق جزء كبير من المنافع الهائلة للوحدة، وبناء مستقبل أكثر قوة وازدهاراً للعالم العربي. الطريق طويل، لكن العوائد المحتملة تظل حافزاً قوياً لا يمكن تجاهله، لكل شعوب المنطقة التي ستأكلها ذئاب الشرق والغرب إن لم تنتبه إلى الخطر القادم، لا محال.
اللهم إني بلغت
كاتب اردني