الوثيقة | مشاهدة الموضوع - العراق: في مقولة الدولة الموازية : يحيى الكبيسي
تغيير حجم الخط     

العراق: في مقولة الدولة الموازية : يحيى الكبيسي

مشاركة » الجمعة يوليو 03, 2020 9:07 am

6.jpg
 
تعرض رئيس مجلس الوزراء العراقي السيد مصطفى الكاظمي إلى التهديد المباشر، وقد صرح بذلك شخصيا في كلمة له يوم 18 حزيران/ يونيو 2020 حين اتهم من أسماهم «الجهات الخارجة على القانون» بتهديده، ولم يسمّهم بطبيعة الحال بـ (الإرهابيين)، على اعتبار أنه في العراق تتحدد طبيعة الجريمة بحسب طبيعة الفاعل وليس الفعل، والفاعل هنا هم الذين يقومون بهجمات صاروخية متكررة ضد المنطقة الخضراء، ويريدون «اختطاف العراق» كما قال. في اليوم التالي، صدر بيان عن قيادة العمليات المشتركة، توعدت فيه بالضرب بيد من حديد للـ «الجهات» التي تقف وراء إطلاق الصواريخ، وتريد «تنفيذ أجندة تتعارض مع مصالح العراق الوطنية». والعمليات المشتركة هنا، وفقا لتوصيف الأمر الديواني الذي أصدره رئيس مجلس الوزراء السابق عادل عبد المهدي في 16 أيلول/ سبتمبر 2019 هي «قيادة وإدارة العمليات المشتركة على المستوى الاستراتيجي والعملياتي باستخدام كل إمكانيات الدولة الأمنية والإشراف عليها»، وهو الأمر الديواني نفسه الذي أضاف هيئة الحشد الشعبي إلى تشكيلاتها!
بعد عشرة أيام من هذا التهديد بالضرب بيد من حديد، قامت قوة من مكافحة الإرهاب باقتحام موقع في جنوب بغداد، تابع لكتائب حزب الله، وقامت باعتقال 14 عشر شخصا، وصدر بيان عن قيادة العمليات المشتركة، أشار إلى «معلومات استخبارية دقيقة عن الأشخاص (!) الذين سبق لهم أن استهدفوا المنطقة الخضراء ومطار بغداد الدولي»، وإلى «نوايا جديدة لتنفيذ عمليات إطلاق نار على اهداف حكومية داخل المنطقة الخضراء»، وإلى أن «مذكرة إلقاء قبض أصولية « صدرت «بحقهم»، وأنه تم « إلقاء القبض على «أربعة عشر متهما (!) وهم عديد كامل المجموعة مع المبرزات الجرمية المتمثلة بقاعدتين للإطلاق».
بعد أربعة أيام، أطلق سراح 13 شخصا من الذين ألقي القبض عليهم، وتغير خطاب الحكومة وتبدلت الوقائع! حيث أخبرنا الناطق الرسمي باسم رئيس مجلس الوزراء، بأن ما جرى كان «معلومات استخباراتية عن محاولة لاستهداف مناطق حساسة وممثليات دولية»، وأن «أمر القاء قبض صدر بحق شخص واحد»، وأن»13 شخصا كانوا متواجدين مع المطلوب»، تم الإفراج عنهم جميعا «والمطلوب ما زال في عهدة القضاء»!
ليس مهما هنا إذا ما كان هذا التراجع نتيجة صفقة بين الدولة والدولة الموازية، قضت بعدم استهداف القوات الأمريكية في العراق، أو نتيجة لاعتراض الفاعلين السياسيين الشيعة على المساس بالأخيرة، ففي الحالتين لا يمكن فهم هذا التراجع عن «الضرب بيد من حديد» من دون فهم طبيعة الدولة الموازية التي عمل الفاعل السياسي الشيعي، على استخدامها كأداة منذ العام 2003، والتي تحولت إلى واقع بعد حزيران 2014.
شكلت الميليشيات، المغطاة سياسيا، بعد نيسان 2003، مشروع دولة موازية تقوم بأداء الأدوار «القذرة» التي لا يراد للقوات الرسمية القيام بها، مع أن هذه القوات الرسمية، مارست هي أيضا، عمليات القتل خارج إطار القانون والإخفاء القسري. ومراجعة سريعة للأدبيات المتعلقة بما قامت به «فرق الموت» في العراق في تلك الحقبة، تكشف عن ذلك!
في التقرير الصادر عام 2006 عن أكاديمية الدفاع في المملكة المتحدة بعنوان: «عمليات فرق الموت في العراق» نقرأ: «بعد انتخابات كانون الثاني/ يناير 2005 أصبحت وزارة الداخلية تحت سيطرة [منظمة] بدر بالكامل مع [وزير الداخلية] بيان جبر، وهو مسؤول سابق في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق»، ويشير التقرير إلى أن ألوية الذئب والبركان والعقرب التي كانت تتكون بالكامل تقريبا من أعضاء منظمة بدر، كانت تعمل كفرق موت! ونقرأ: «طوال عام 2005، بدأت فرق الموت التي تعمل بزي الشرطة الخاصة، وبطاقات الهوية، والمعدات في الظهور في المدن الكبرى، خاصة في بغداد وما يسمى بالمثلث السني»!
وفي مقالة نشرتها صحيفة الأندبندت البريطانية في 26 شباط/ فبراير 2006 نقل الكاتبان أندرو بونكومب وباتريك كوكبيرن عن جون بيس، الذي شغل منصب مسؤول حقوق الإنسان في بعثة الأمم المتحدة في العراق (يونامي) قوله: «إن مئات العراقيين يتعرضون للتعذيب حتى الموت، او يعدمون كل شهر في بغداد وحدها، على أيدي فرق الموت التي تعمل في وزارة الداخلية»، وان «معظم عمليات القتل نفذتها الجماعات الشيعية الخاضعة لسيطرة وزارة الداخلية»!

لا يمكن لأي حكومة أن تنجح في انتاج آليات حقيقية، سياسية او اقتصادية أو حتى عسكرية، لإنهاء هذه الدولة الموازية، أو تحجيمها، من دون أن يحدد الفاعلون السياسيون الشيعة، خيارهم: إما الدولة او اللادولة

بعد حادثة تفجير مرقد الامامين العسكريين في شباط/ فبراير 2006، لم تعد فرق الموت التابعة لوزارة الداخلية لوحدها تكفي بالغرض، فتم «استخدام» جيش المهدي للقيام بأعمال انتقامية واسعة النطاق، بتواطؤ صريح من القوات العسكرية والأمنية، وذلك في سياق رغبة قرار الفاعل السياسي الشيعي بأن يتولى «جيش المهدي» فرض نتائج محددة على الأرض، في إطار الصراع الطائفي، وليشكّل «توازن رعب» في مواجهة تنظيم القاعدة والجماعات المسلحة السنية الأخرى.
في هذا السياق، لا بد من تصحيح المقولة التي ترددت كثيرا ومفادها أن رئيس مجلس الوزراء الأسبق نوري المالكي كانت لديه إرادة للقضاء على الدولة الموازية، ودليلهم في ذلك مواجهته للصدرين في العام 2007 في كربلاء، أو في «صولة الفرسان» عام 2008. ولم ينتبه أحد حينها إلى أن هذا الصراع كان صراعا شيعيا ـ شيعيا على النفوذ ولم يكن صراعا بين الدولة والدولة الموازية! بدليل أن المالكي نفسه هو من رعى إعادة إنتاج ميليشيا «عصائب أهل الحق»، المنشقة عن جيش المهدي، بعد أن أدار صفقة إخراج زعيمها قيس الخزعلي، وعدد كبير من مجموعته في بداية العام 2010، ثم عقده صفقة الولاية الثانية مع الصدريين في عام 2010 التي أتاحت لهم القيام باستعراض عسكري في بغداد في أيار/ مايو 2011، ومن ثم تكريس جيش المهدي/ اليوم الموعود/ سرايا السلام أمرا واقعا على الأرض.
وبداية من منتصف عام 2012، اعتمد المالكي سياسة منهجية في دعم منشقين آخرين من جيش المهدي لتشكيل ميليشياتهم الخاصة، فضلا عن دعمه لميليشيات أخرى بدأت تعيد انتاج نفسها (مثل كتائب حزب الله)، لأسباب تتعلق بالصراع المتجدد مع الصدريين من جهة، وفي سياق استجابة الفاعل السياسي الشيعي للثورة السورية لدعم نظام بشار الأسد من جهة ثانية، و لاستخدامها أيضا في عمليات عسكرية ذات طبيعة طائفية في محيط بغداد خارج إطار القانون!
شكّل سقوط الموصل في حزيران 2014، فرصة كبيرة للدولة الموازية، للظهور العلني، لاسيما بعد «التدليس» المنهجي الذي حرّف مضمون فتوى «الجهاد الكفائي» التي أصدرها المرجع الأعلى السيد علي السيستاني، والتي دعت بنص صريح لا يقبل التأويل، إلى التطوع في المؤسسة الأمنية فقط! لكنّ الفاعلين السياسيين الشيعة تواطؤوا على استخدام هذه الفتوى من أجل شرعنة الدولة الموازية والتي كانت، في الحقيقة، قائمة قبل هذه الفتوى، بل وقد أضفوا على هذه الميليشيات صفة القداسة التي جاءت من قداسة الفتوى نفسها! وقد لاقى ذلك هوى لدى أوساط كثيرة داخل المجتمع الشيعي في العراق والذي وجد في تنظيم داعش ليس تهديدا أمنيا له وحسب، بل تهديدا حقيقيا لوجودهم نفسه.
هكذا شكلت هذه الدولة الموازية/ الميليشيات قوة سياسية وعسكرية وشعبية أيضا، لاسيما مع وجود الدعم المالي الذي حظيت به من الموازنة العامة، ومن نشاطها الاقتصادي المافيوي الخاص الذي يؤمنه السلاح والسطوة وعدم المساءلة، ومن شراكتها، بطبيعة الحال، في فساد الدولة (الأم)! ثم انتهى الأمر مع انتخابات العام 2018 إلى سيطرة حملة السلاح، الممثلون للدولة الموازية، على القرار السياسي في البرلمان والحكومة، بعد أن كانوا في المرحلة السابقة، مجرد أدوات عنفية بيد الفاعل السياسي الشيعي!
تمثل الدولة الموازية في العراق نموذجا فريدا؛ فهي تشكلت بإرادة واعية من الفاعلين السياسيين الشيعة الذين يصرون على الإبقاء على هذا السلاح العقائدي رغم احتكارهم للقرار السياسي والعسكري والأمني في الدولة (الأم)، لأسباب تتعلق، ربما، بتصوراتهم حول طبيعة الصراع الطائفي في العراق، وحول طبيعة التهديدات التي لا يمكن مواجهتها عبر هذه الدولة.
ومن ثم لا يمكن لأي حكومة مضت أو ستأتي أن تنجح في انتاج آليات حقيقية، سياسية او اقتصادية أو حتى عسكرية، لإنهاء هذه الدولة الموازية، او تحجيمها، من دون أن يحدد الفاعلون السياسيون الشيعة، خيارهم: إما الدولة او اللادولة!
العناوين الاكثر قراءة









 

العودة إلى المقالات