جاءت الضربة الصاروخية الإيرانية لإسرائيل، الثلاثاء الماضي، لتعلن طهران عن تطهرها، وإزاحة ما علق بها من اتهامات مشينة، تتعلق بالتواطؤ في سلسلة الضربات التي لحقت بحزب الله في لبنان، بدءاً مما يعرف بتفجيرات البيجر والأجهزة اللاسلكية، مروراً بسلسلة الاغتيالات، التي استهدفت عسكريين وسياسيين، طالت حتى أمين عام الحزب السيد حسن نصر الله، بل فتحت باب النقاش من جديد حول ملابسات اغتيال إسماعيل هنية رئيس حركة حماس، وقبل ذلك مقتل الرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي.
الاتهامات التي شانت إيران، ربما نتجت عن عدم إدراك البعض، أنه في حالة دخول طهران في اتفاقيات سرية، أو مقايضات بغيضة، مع الولايات المتحدة وإسرائيل، فإن المشروع النووي الإيراني، في كل الأحوال، إضافة إلى وقف التوسع في المنطقة، هما الهدف الفوري لما بعد حزب الله، في حال تمت تصفية الحزب أو إضعافه، لعدم وجود القوة الضامنة دولياً، لمثل هذه الاتفاقيات والمقايضات من جهة، ولأهمية القضاء على المشروع النووي، على المستوى الدولي والإقليمي، وليس لإسرائيل فقط، من جهة أخرى.
الأطماع الإسرائيلية أصبحت معلنة، بعد الضربات المتتالية على حزب الله، ذلك أن مخطط «من النيل إلى الفرات» ظهر إلى الوجود بقوة، على «السوشيال ميديا» الإسرائيلية بشكل خاص
المؤكد أن حزب الله يمثل حائط الصد الأقوى لإيران، حال التفكير في اعتداء كبير على أمنها القومي، وليس العكس، بمعنى أن إيران لم تتدخل قط للدفاع المباشر عن حزب الله أو لبنان، ولن تتدخل يوماً ما، كما تشير مجريات الأحداث طوال السنوات الماضية، إلا أن قوة حزب الله كانت تمثل، طوال الوقت، الرادع الاستراتيجي، حال أي تفكير في الاعتداء على إيران، إلى جانب محور المقاومة الشيعية في المنطقة ككل، من العراق إلى سوريا إلى اليمن، وهو الأمر الذي يجعل من إضعاف حزب الله، طريقاً سهلاً إلى التعامل بعنف، مع إيران في كل القضايا الخلافية الدولية. عدم الرد الإيراني على اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، منذ شهر يوليو الماضي، كان سبباً منطقياً، لفتح الباب واسعاً أمام تساؤلات، تتمحور حول دور لطهران في عملية الاغتيال، ثم توالت بعد ذلك عمليات الاغتيال في بيروت، والاعتداءات على كل من اليمن وسوريا، دون أي ردود فعل إيرانية على مستوى الأحداث، لتأتي عملية اغتيال نصر الله تحديداً بالتساؤلات إلى نقطة الصفر، حول ملابسات تفجير طائرة الرئيس الإيراني السابق (المحافظ) إبراهيم رئيسي، وكيف أنها كانت عملية إيرانية خالصة. من هنا جاءت الضربة الإيرانية، في توقيت مهم جداً بالنسبة لإيران بشكل خاص، بعد أن بدت الأحداث تتسارع، وتحمل في جعبتها الكثير من التطورات الجذرية في المنطقة ككل، وطرحت المقولة العربية: (أُكلت يوم أكل الثور الأبيض) نفسها بقوة على التحليلات، بعدما اعتمد المخطط الإسرائيلي- الأمريكي، على الانفراد بكل جبهة على حدة، وهو ما أقر به الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، حينما أعلن أننا (خضعنا لنصيحة الولايات المتحدة بعدم الرد على قتل إسماعيل هنية، مقابل وقف العدوان على غزة، وهو ما لم يحدث)، في إشارة إلى أن المخطط الأمريكي يعمل على مساعدة إسرائيل، في تحييد بقية الجبهات، لحين الانتهاء من إحداها، الواحدة تلو الأخرى، ونظراً لأن إسرائيل تتعامل مع الأحداث منذ عملية، طوفان الأقصى، باعتبار أنها أمام حرب وجودية، تستهدف إزالة الكيان، فإن الطريق مازال طويلاً أمام الطموحات والأطماع الإسرائيلية، وهو ما أعلنه نتنياهو رئيس الوزراء، في أعقاب تنفيذ عملية تفجيرات أجهزة البيجر قائلاً: الآن نعيد ترتيب المنطقة من جديد، معتبرا بذلك أنه حقق النصر على الجبهة اللبنانية، وسيبدأ في التعامل مع جبهات أخرى كانت في الانتظار.
في الداخل الإسرائيلي، وعلى الصعيد الفلسطيني، تقوم جمعيات المستوطنين الآن، بالتخطيط الهندسي، لبناء مستعمرات داخل كامل قطاع غزة، تمت الحجوزات فيها بالفعل، والاستعانة بشركات المقاولات هناك في هذا الشأن، تحت إشراف عدد من الوزراء، يتقدمهم إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي، وبتسلئيل سموتريتش وزير المالية، على اعتبار أن من سيتبقى من سكان القطاع بعد انتهاء حرب الإبادة، التي مازالت مستمرة، سيتم تهجيرهم، سواء إلى مصر براً، أو إلى أوروبا بحراً، عن طريق قبرص، كنقطة استقبال أولية. وعلى صعيد الضفة الغربية، تعي السلطات الأردنية تماماً -دون أي رد فعل- أن المخطط الإسرائيلي، كما هو معلن، يتضمن تهجير سكان الضفة والقدس إلى الأردن، تحت مسمى الدولة الفلسطينية، التي أقرتها واعترفت بها الأمم المتحدة أخيراً، ثم يأتي بعد ذلك الدور على عرب 1948، أو فلسطينيي الداخل الإسرائيلي لتهجيرهم أيضاً، في إطار إنشاء الدولة اليهودية الخالصة، المعترف بها مقدماً، أمريكياً وأوروبياً، بالدرجة الأولى، ولا غرابة حينما نشهد اعترافات عربية سريعة، من دول التطبيع، على أقل تقدير.
الأطماع الإسرائيلية أصبحت معلنة وأكثر وضوحاً، بعد الضربات المتتالية على حزب الله، ذلك أن مخطط «من النيل إلى الفرات» ظهر إلى الوجود بقوة، على «السوشيال ميديا» الإسرائيلية بشكل خاص، ويلقى دعم الحكومة المتطرفة الحالية، ودعماً أمريكياً غربياً واضحاً، يتناقض مع التصريحات الرسمية بالطبع، في حماية حاملات طائرات وبوارج، لا تغادر المنطقة إلا لبضعة أيام، لتعود إلى مواقعها، وقواعد عسكرية ثابتة ومتحركة، وقد جاء اتفاق العراق أخيراً، مع دول التحالف بقيادة الولايات المتحدة، باستمرار وجود القوات والقواعد العسكرية هناك، حتى سبتمبر المقبل، ليؤكد الحاجة إلى هذه القوات والقواعد في المستقبل القريب. وربما كان نتنياهو، أكثر وضوحاً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أخيراً، حينما أشار إلى إحدى الخرائط باعتبارها محور الخير والتعاون الإنمائي، متضمنة بعض الدول العربية إلى جانب إسرائيل، وأخرى كمحور للشر تتضمن عددا من الدول التي هددها بالاستهداف، وسط صمت بقية الدول العربية، التي ترى أن الأمر يدور بمعزل عنها، على الأقل في المرحلة الحالية، وهو في حد ذاته مبرر كاف للصمت والابتعاد عن مجريات الأحداث، ولو بالاشتباك اللفظي.
لا شك أن هناك إعادة ترتيب للمنطقة بالفعل، لكن إلى أي مدى من حيث الجغرافيا، وكم سيستغرق من حيث الوقت، وما هو حجم الخسائر المتوقعة مادياً وبشرياً، وماذا تخبئ الأقدار من حجم المقاومة هنا، أو سوء تقدير للموقف هناك، كل التوقعات مطروحة، إلا أن كل الخيارات لن تكون متاحة أبداً، في ظل حالة غليان شعبي، في دول الصمت ذات الصلة، وبشكل خاص في مصر والأردن، والدول المعنية بشكل غير مباشر، وبشكل خاص في تركيا، وإلى أي مدى يمكن أن يستمر التغاضي المصري، عن الممارسات الإسرائيلية على الحدود، خصوصاً ممر صلاح الدين (فيلادلفيا) مع غزة، أعتقد أننا لن ننتظر طويلاً حتى تجيب الأحداث عن هذه التساؤلات. المؤكد أن الخسارة الإيرانية على المستوى الاستراتيجي فادحة، جراء ما جرى ويجري في لبنان، وأن هزيمة حزب الله تحديداً تعني نهاية المشروع الإيراني في المنطقة، المعروف بـ»الهلال الشيعي»، ذلك المشروع الذي خططت له طهران منذ الثورة الإيرانية عام 1979، وتحديداً بعد إنشاء حزب الله عام 1982، ودخول المشروع حيز التنفيذ بقوة، منذ الإطاحة بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين عام 2003، وأنفقت عليه طهران مليارات الدولارات، في وقت كانت أحوج ما تكون إلى أقل القليل، نتيجة الحصار الدولي والعقوبات الأممية المفروضة عليها. ويمكن القول، إن الحاجة الأمريكية إلى ذلك الهلال، الذي باركته وساعدت على تكوينه في سنوات سابقة، انتفت، بنهاية الجماعات السنية المناوئة للهيمنة الأمريكية، وفي مقدمتها تنظيم «القاعدة» بزعامة أسامة بن لادن، الذي اغتيل في عملية أمريكية عام 2011 بباكستان، وجماعة الجهاد بزعامة أيمن الظواهري، الذي اغتيل في غارة أمريكية عام 2022 بأفغانستان، وهو ما يعجّل بتراجع دور إيران عموماً، التي كان يمكن أن تقبل بأقل القليل، مادام يحافظ على أمنها، خصوصاً في العراق، على سبيل المثال، باعتباره قبلة الزوار الإيرانيين، إلى المراقد والعتبات المقدسة.
وجاءت الضربة الصاروخية الإيرانية لتبقى كل الاحتمالات مفتوحة من جديد، نحو مفاجآت من هنا أو هناك، إلا أن المؤسف، أن كل ذلك يجري بمنأى عن العرب عموماً، الذين لا يسعون للتطهر أو تحسين السمعة، كما إيران على أقل تقدير، بعد أن اعتادوا دور المفعول به، مع كل تسوية أو تطورات إقليمية، منذ اتفاقية سايكس بيكو، عام 1916، حتى عندما يتعلق الأمر بشؤونهم المباشرة، رغم حجم الإنفاق على السلاح، الذي يصل إلى نحو 150 مليار دولار سنوياً، ما يؤكد أن الهدف الأول والأخير من كل هذا الإنفاق، هو مواجهة تذمر الشعوب، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
كاتب مصري