الوثيقة | مشاهدة الموضوع - تصنيع الصراع السنّي الشيعي : علي فواز
تغيير حجم الخط     

تصنيع الصراع السنّي الشيعي : علي فواز

مشاركة » السبت إبريل 03, 2021 6:00 pm

يقول المثل العربي: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض". قصته تختصر الموقف وتجنّب الإطالة والإسهاب في هذه القضية.

أوائل العام 2016، أدلى مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق اللواء يعقوب عامي درور بموقف عشية رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران، وقال إن "هذا الأمر سيعمل على إشعال الصراعات القائمة في المنطقة بين المحاور السياسية المتحاربة، وخصوصاً السُنة والشيعة".

بمعزل عن التوصيف (محور سنّي ومحور شيعي) الذي لم يجر اختياره بطريقة اعتباطية، بل تم تصنيعه على مدى سنوات، ومحاولة غرسه في أذهان الرأي العام العربي والإسلامي، السنّي بأغلبه، فإن موقف اللواء الإسرائيلي الذي ترأس سابقاً شعبة الأبحاث في جهاز الاستخبارات العسكرية، لم يكن مجرد توقع أو تنبؤ، بقدر ما كان يستبطن مشروعاً إسرائيلياً خليجياً قادماً يحتاج بطبيعة الحال إلى مقدّمات ومسوّغات تسوّق إلى الرأي العام.

هذا المشروع عبّر عنه شبيتاي شافيت، الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات الإسرائيلية في مقابلة مع "يو إس راديو"، نقلتها صحيفة "جيروزالم بوست"، إذ قال: "لدينا فرصة فريدة لبذل الجهود ومحاولة تشكيل تحالف يضمّ الدول العربية المعتدلة بزعامة إسرائيل، بغرض مواجهة القدرات النووية المحتملة لإيران في المستقبل، ووضع نظام جديد في الشرق الأوسط".

قبل ذلك، ساهمت السنوات العجاف التي مرت على العرب في تمهيد الطريق لمثل هذه المواقف أكثر مما فعل الاتفاق النووي مع إيران. كان من الصعب أن تتجرأ الدول العربية المطبّعة والتابعة على أن تخطو مثل هذه الخطوات وتترجم المواقف والرؤى الإسرائيلية قبل "الربيع العربي". كان لا بدّ من تهيئة الظروف الاجتماعية والنفسية والسياسية والاقتصادية، وصولاً إلى اللحظة المناسبة لتحقيق الهدف المضمر، والذي بدأ يتجلى بوضوح أكثر مع الإعلان عن "صفقة القرن". استشراف هذا المسار في السابق كان مدعاة للتندر والسخرية، وكان يُسمى "نظرية مؤامرة".

منذ العام 2011، علا صوت الضجيج وغاب صوت العقل. بُذرت الطائفية والحقد في جسد الأمة المريض، وأوقدت الفتنة. تسلّلت البروباغندا من المناطق الرخوة. تبدلت الأولويات، وضاعت البوصلة. بدأت وسائل وماكينات إعلامية بقصف العقول في هجوم معدّ مسبقاً. ارتفع خطاب الكراهية وخطاب "نصرة أهل السنّة"، وكثر الحديث عن الهلال الشيعي والتمدّد الإيراني، وغابت فلسطين عن الخطابات والعناوين الرئيسية. هوجم العقلاء في محاولة لعزلهم، واستهدفوا بالتشويه والتضليل والمتفجرات. وعندما أعلنوا عن مشاريع مشبوهة، سارع إعلام التضليل والأصوات الصاخبة إلى تصنيف مواقفهم في إطار التبعية، للإيحاء بأنهم يعملون لمصلحة طرف ولا ينطقون بمواقفهم الأصلية والمتأصلة في قناعاتهم.

أُدرجت مواقفهم في أحسن الأحوال ضمن "نظرية المؤامرة"، بغية تسخيفها وتوهينها، وكأن المؤامرة ليست عملاً أصيلاً في المشاريع السياسية أو كأن السياسة الغربية لم تقم منذ زمن بعيد على الهيمنة من خلال التشتيت والتقسيم.

هذه السياسة عبّر عنها بوضوح المؤلف والمؤرخ الأميركي دانيال بايبس في صحيفة "واشنطن تايمز"، متحدثاً عن الفوائد التي يجنيها الغرب من الصراع "السني - الشيعي". يقول بايبس، وهو مؤسس ومدير "منتدى الشرق الأوسط" في الولايات المتحدة الأميركية، إن "دخول فرع واحد من الإسلام في حالة حرب مع فرع آخر لبضع سنوات – أو عقود – أفضل كثيراً بالنسبة إلى الغرب.. سقوط ضحايا من المدنيين في حلب أو حمص هو مأساتهم، ولا يورطنا ذلك أخلاقياً.. وربما يفيدنا استراتيجياً. على الأقل، هو يؤدي إلى إعادة توجيه الطاقات الجهادية بعيداً من الغرب".

أكثر من عبّر عن قناعة بايبس إسرائيلياً هو "مؤتمر المناعة والأمن القومي لإسرائيل"، المعروف باسم "مؤتمر هرتسيليا". يوصف المؤتمر بأنه "عقل إسرائيل"، إذ تشارك فيه كلّ النخب الإسرائيلية لرسم سياساتها المستقبلية وتوجيهها. في العام 2008، ناقش مؤتمر هرتسيليا عنوان "الشرخ الشيعي - السني، جذوره وأبعاده الاستراتيجية". وعلى مدى سنوات، اعتبرت توصيات المؤتمر أنَّ من مصلحة "إسرائيل" أن تسهم في تذكية ذلك الصّراع.

خلصت توصيات المؤتمر في العام 2013 إلى "ضرورة تكريس الصراع السني - الشيعي، من خلال السعي إلى تشكيل محور سني من دول المنطقة، أساسه دول الخليج ومصر وتركيا والأردن، ليكون حليفاً لإسرائيل والولايات المتحدة، في مقابل "محور الشر" الذي تقوده إيران، والذي سيكون، بحسب التقسيم الإسرائيلي، محوراً للشيعة".

بعد عشر سنوات من "الربيع العربي"، من المفيد ربما العودة إلى الخطاب الذي رافق هذه المرحلة، ليس لتأكيد فرضيات أو قناعات معينة، بل لاستخلاص العبر للمستقبل. تقتضي الصراحة القول اليوم إنه من أجل كسر المقاومة وإنهاء القضية المركزية فلسطين، جرى افتعال الخلاف الطائفي والمذهبي، كما تقتضي الصراحة الاعتراف بأن الخطة نجحت في إثارة الرأي العام العربي وتعبئة قسم من المسلمين السنّة، إلا أن الأخطر هو التيارات السياسية والقادة الذين جنحوا إلى التقسيم بدل الوحدة، رغم أن مشروعهم ينضوي تحت راية المقاومة.

كان الموقف الأصعب خلال هذه المرحلة هو ما حدث في سوريا، الأمر الذي أشار إليه السيد حسن نصر الله خلال حفل تأبيني أقامه "تجمع العلماء المسلمين" للشيخ الراحل أحمد الزين منذ أيام. السيد نصر الله قال: "في مواجهة المشروع الإسرائيلي والمشروع الأميركي، وفي الطموح إلى أن تكون البلاد الإسلاميّة والعربيّة مستقلّة وحرّة، لا يمكن أن يكون هناك التباس وشبهات. البعض اليوم يحاول أن يرمي شبهات في القضية الفلسطينية خدمةً للسلاطين"، ورأى أنّ "الموقف الأصعب كان في سوريا، لأنّ الراحل (الزين) تحمّل بسببه الكثير من الأذى. ما حصل هناك كان كبيراً وخطيراً، وفيه أبواب كبيرة للفتنة والتضليل وتضييع البوصلة".

من جملة الحقائق التي لا يستعرضها إعلام المحور الإسرائيلي، المعلن والمموّه، أن وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد أمر البنتاغون في العام 2001 بصياغة خطط للإطاحة بسبع دول في الشرق الأوسط، بدءاً من العراق، ثم سوريا، ثم لبنان، وليبيا، والصومال، والسودان، وانتهاءً بإيران.

وفي العام 2006، وضعت السفارة الأميركية في دمشق خططًا مفصلة لزعزعة استقرار سوريا والإطاحة بها، وكان ذلك قبل وقت طويل من حدوث التظاهرات في سوريا.

لطالما كان الصراع في منطقتنا واضحاً وجلياً منذ ثورة الضباط الأحرار. يومها، لم يكن ثمة وجود لما يسمى محور الشيعة ومحور السنّة. حينذاك، كانت إيران تحت حكم الشاه مؤيدة لحلف بغداد، ولم تكن إيران توصم بأنها شيعية في الأدبيات السياسية والخطاب الإعلامي. الشيعة أيّدوا جمال عبد الناصر من منطلق قومي وعروبي وإنساني وأخلاقي، كذلك فعل السنّة خلال حرب تموز. كان تأييدهم من منطلق ديني وقومي وعروبي وإنساني ضد العدو نفسه الذي قارعه عبد الناصر.

يختصر هذا الموقف مثلاً عربياً يجنّب الإطالة والإسهاب في هذه القضية. يقول المثل: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"، وهذه قصته:

يُحكى أن أسداً وجد قطيعاً مكوناً من ثلاثة ثيران، أسود وأحمر وأبيض، فأراد الهجوم عليه، فصده وطرده من منطقته. فكر الأسد في طريقة ليصطاد هذه الثيران، وخصوصاً أنها كانت معاً الأقوى، فذهب إلى الثورين الأحمر والأسود، وقال لهما: "لا خلاف لدي معكما. أنتما من أصدقائي. أريد أن آكل الثور الأبيض فقط، كي لا أموت جوعاً. أنتم تعرفون أنني أستطيع هزيمتكم، لكنني لا أريدكما، بل أريده وحده فقط".

فكر الثوران كثيراً، ودخل الشك في نفوسهما وحب الراحة وعدم القتال، فقالا: "الأسد على حق. سنسمح له بأكل الثور الأبيض". افترس الأسد الثور الأبيض. ومرت الأيام، ثم جاع من جديد، فعاد إليهما، وحاول الهجوم عليهما، فصداه معاً ومنعاه من اصطياد أحدهما، ولكنه استخدم الحيلة القديمة، فنادى الثور الأسود، وقال له: "لماذا هاجمتني وأنا لم أقصد سوى الثور الأحمر؟". قال له الأسود: "لقد قلت ذلك عندما أكلت الثور الأبيض"، فرد الأسد: "ويحك، أنت تعرف قوتي وأنني قادر على هزيمتكما معاً، لكنني لم أشأ أن أخبره بأنني لا أحبه، كي لا يعارض اتفاقنا السابق". فكر الثور الأسود قليلاً، ووافق بسبب خوفه وحبه الراحة.

في اليوم التالي، اصطاد الأسد الثور الأحمر. مرت الأيام، ثم جاع، فهاجم مباشرة الثور الأسود. وعندما اقترب من قتله، صرخ: "أُكلت يوم أكل الثور الأبيض".

احتار الأسد، وقال له: "لماذا لم تقل الثور الأحمر، فعندما أكلته أصبحت وحيداً، وليس عندما أكلت الثور الأبيض!"، فقال له: "لأنني منذ ذلك الحين تنازلت عن المبدأ الذي يحمينا معاً. ومن يتنازل مرة يتنازل كل مرة، فعندما أعطيت الموافقة على أكل الثور الأبيض، أعطيتك الموافقة على أكلي".
العناوين الاكثر قراءة









 

العودة إلى المقالات