الوثيقة | مشاهدة الموضوع - المحتلون والمقاومون: درس في الانتهازية : يحيى الكبيسي
تغيير حجم الخط     

المحتلون والمقاومون: درس في الانتهازية : يحيى الكبيسي

مشاركة » الخميس يوليو 22, 2021 9:15 pm

18.jpg
 
اضطرت الولايات المتحدة الامريكية، في سياق سعيها المعلن لاحتواء نظام صدام حسين في تسعينات القرن الماضي، إلى التعامل مع الفاعلين السياسيين الشيعة المدعومين إيرانيا، بعد أن اكتشفت أن المعارضة الشيعية «الليبرالية» التي تشكلت في المنفى بدعم إقليمي (كما حركة الوفاق الوطني العراقي بزعامة أياد علاوي التي تشكلت بدعم سعودي) أو التي تشكلت بمبادرات ذاتية (مثل المؤتمر الوطني بزعامة أحمد الجلبي) لا تملك أي تأثير حقيقي على الأرض رغم الدعم الواسع الذي كانت تتلقاه! من هذا السياق يمكن لنا أن نفهم لماذا قررت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون التعاون مع قيادة «المجلس الاعلى للثورة الإسلامية في العراق» (والذي تشكل بقرار من «آية الله الخميني» شخصيا في إيران عام 1982 ليكون بمثابة المظلة للمعارضة الإسلامية الشيعية العراقية، وترأسه لحظة التأسيس آية الله محمود الهاشمي الشاهرودي الذي كان أحد أعمدة النظام الإيراني)!
وكانت الولايات المتحدة مدركة تماما بأن هذا التنظيم كان قد ملتزما بمبدأ ولاية الفقيه، ومدركة لما يعنيه ذلك من التزام عقائدي بطاعة الولي الفقيه «الإيراني»! ومدركة أيضا بأن الايمان بمقولتي «الشيطان الأكبر» و«الموت لأمريكا» هي مصداق لتلك الطاعة، والمفارقة هنا أن الإدارة الأمريكية لم تلتفت إلى التناقض بين أن تكون إيران طرفا في سياسة «الاحتواء المزدوج» التي اعتمدتها إدارة كلينتون بين عامي 1993 و 2001 ضد العراق وإيران، وبين التعاون مع أحد «وكلائها»!
ولم يقف الأمر عند حدود «التعاون» بل قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتمويل المجلس الأعلى وذراعه العسكري «فيلق بدر» الذي يعمل تحت إمرة الحرس الثوري الإيراني؛ فوفقا للوثائق الأمريكية، تحديدا الأمر التنفيذي (P. D. 99.13) الذي أصدره الرئيس بيل كلينتون عام 1999، فقد كان المجلس الأعلى واحدا من ستة تنظيمات تم تمويلها بموجب قانون تحرير العراق الذي أصدره كلنتون عام 1998 (المفارقة الأكبر هنا أن هذا الأمر التنفيذي ضم تنظيم «الحركة الإسلامية في كردستان/ العراق» السلفي، الذي كان الملا كريكار أحد مؤسسيها وأبرز قادتها قبل ان ينشق عنها في العام 2001 ليشكل «أنصار الإسلام»!).
وقد توج التعاون بين أمريكا والمجلس الأعلى بزيارة السيد عبد العزيز الحكيم (الأخ الأصغر لمحمد باقر الحكيم والذي تولى رئاسة المجلس الأعلى بعد الشاهرودي) لواشنطن عام 2002 وفيها التقى كلاّ من ديك تشيني نائب رئيس الجمهورية، ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع آنذاك، وكانا أبرز شخصيتين من شخصيات اليمين المحافظ اللتين دفعتا باتجاه الحرب على العراق!
بعد احتلال العراق عام 2003، اضطر الأمريكيون إلى الاستمرار في ممارسة هذه اللعبة المزدوجة؛ فمع إدراكهم بأن بعض الفاعلين السياسيين الشيعة لهم علاقاتهم العقائدية مع إيران، وهي علاقات لا يمكن زعزعتها او التدخل فيها بأي شكل، استمر الأمريكيون في «التعاون» معهم، لاسيما بعد ظهور مؤشرات على وجود مقاومة «سنية» آخذة في التصاعد، فقد وجدوا انه ليس من مصلحتهم الدخول في مواجهة مع الفاعل السياسي الشيعي بشأن علاقته مع إيران والتي وصلت إلى الحد الذي جعل شخصا ليبراليا مثل احمد الجلبي يدعم علاقته بإيران، وينشئ ما سمّاهُ «البيت الشيعي» عام 2004 لكي يضمن له موطئ قدم في المشهد السياسي العراقي.
وقد تجاوز هذا «التعاون» السياسة والتمويل، إلى التعاون العسكري والأمني؛ فقد نشرت صحيفة الغارديان البريطانية في 6 آذار – مارس 2013 تقريرا بعنوان: «من السلفادور إلى العراق: رجل واشنطن خلف فرق الشرطة الوحشية» أشارت فيه إلى منع الولايات المتحدة أعضاء الميليشيات الشيعية العنيفة مثل فيلق بدر وجيش المهدي من الانضمام إلى قوات الأمن في بداية الاحتلال، لكنها بحلول صيف 2004 رفعت ذلك الحظر، وأشار التقرير إلى وصول أعضاء الميليشيات الشيعية من جميع انحاء العراق إلى بغداد، على متن شاحنات، للانضمام إلى قوة الكوماندوس الجديدة، وان هؤلاء الرجال كانوا «متحمسين لمحاربة السنة» وأنهم كانوا يسعون «للانتقام لعقود من حكم صدام الوحشي المدعوم سنيا» كما جاء في التقرير!

تبدو فكرة المقاومة في العراق لدى هذه الميليشيات فعلا سياسيا يخلو من المبدأ الأخلاقي، ولا يمثل هدفا في حد ذاته إنما يرتبط بتحقيق مصالح لا علاقة لها بالعراق من الأصل

ما بين عامي 2003 و 2011 حدث مشهد سريالي بامتياز في سياق هذه اللعبة المزدوجة؛ ورأينا فاعلين سياسيين شيعة، مدعومين إيرانيا، يبنون علاقات استراتيجية مع الأمريكيين ويصل بهم الأمر إلى تغيير «مراجع تقليدهم» وفي الوقت نفسه تتشكل «مقاومة شيعية» للوجود الأمريكي في العراق مدعومة إيرانيا! لتصل هذه العلاقة السريالية منتهاها مع التيار الصدري الذي كان جزءا فاعلا في السلطة، تشريعيا وتنفيذيا، وجزءا من الحكومة التي كانت ترسل سنويا خطابا إلى مجلس الأمن الدولي للمطالبة بالإبقاء على الأمريكيين/ قوات التحالف الدولي في العراق، وفي الوقت نفسه يقاتل جناحها المسلح «جيش المهدي» الأمريكيين في الشارع تحت عنوان «المقاومة»!
في مقابل هذا المشهد، هناك واقع آخر يقول إنه بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1546 الصادر في 8 حزيران/ يونيو 2004 انتهى الاحتلال، من الناحية القانونية على الأقل، وأصبح وجود القوات الأمريكية في العراق جزءا من «القوة متعددة الجنسية» وهي قوة باقية بناء على طلب من الحكومة العراقية المؤقتة! وظلت القوات الأمريكية/ القوة متعددة الجنسية تعمل في العراق بموجب تفويض رسمي من مجلس الأمن يتجدد سنويا بناء على طلب «رسمي» يرسله رئيس مجلس الوزراء باسم الحكومة العراقية في الأعوام بين 2005 ـ 2010!
في أعقاب احتلال داعش للموصل 2014، عادت الولايات المتحدة 2014 الى العراق في إطار التحالف الدولي الذي أنشأته وقادته بنفسها. ومع حرصها على إبعاد إيران عن هذا التحالف، فقد كانت تغض الطرف عن الدور الإيراني في هذه المواجهة التي أخذت شكلا تصاعديا عبر الوكلاء التابعين لها عقائديا، ومرة أخرى استمرت اللعبة المزدوجة التقليدية في سياق هذه الحرب؛ حيث رضي الأمريكيون بتسليح هذه المليشيات بالأسلحة الأمريكية، بل وفرو لها الدعم الجوي الحاسم وتغاضوا عن الانتهاكات الجسيمة التي قامت بها، والتي وصفها تقرير لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، في مرحلة مبكرة، بأنها جرائم ضد الإنسانية ترقى إلى أن تكون جرائم حرب!
في 2005 نشر موقع Bloomberg مقالا كتبه Josh Rogin و Eli Lake بعنوان: «القوات الإيرانية والأمريكية تشتركان في قاعدة واحدة» نقلا عن اثنين من كبار المسؤولين في الإدارة الامريكية أن الجنود الأمريكيين والميليشيات الشيعية، تحديدا كتائب حزب الله، يقيمان جنبا إلى جنب في قاعدة «تقدم» العسكرية في الأنبار! كما نُقل عن مسؤول كبير آخر، ان قادة بعض الميليشيات المتشددة كانوا يجلسون في إحاطة أمريكية بشأن العمليات العسكرية!
لكن سرعان ما بدأت المواجهة الأمريكية مع المليشيات المدعومة إيرانيا في العراق 2019 مع أول رشقة كاتيوشا على المنطقة الخضراء، وهو منعطف ونقطة تحول سببها العقوبات الامريكية على إيران نهاية عام 2018 والتي طالت لاحقا، بعض المليشيات مثل عصائب أهل الحق، والنجباء (2019) وكتائب حزب الله (2020) وبهذا انتهى، نوعا ما، الموقف الامريكي «العائم» تجاه هذه المليشيات، لاسيما بعد محاولة اقتحام السفارة الأمريكية، ثم مقتل متعاقد أمريكي في قاعدة كركوك بعد هذا بأسبوع، الأمر الذي عدته واشنطن تجاوزا لحدود اللعبة واستوجب رد فعل أمريكي شديد، تمثل في عملية اغتيال الجنرال سليماني، وأبو مهدي المهندس في مطلع كانون الثاني 2020.
والملاحظة الجوهرية هنا ان هذه المواجهة لاتزال «منضبطة» وتحت السيطرة، ولم تتحول الى حرب حقيقية مفتوحة، ولن تتحول لعوامل كثيرة أهمها أن المواجهة هنا هي أقرب الى «البريد المسلح» التي تصل من خلالها رسائل إيران للولايات المتحدة؛ فصواريخ الكاتيوشا التي يتم استخدامها لا تشكل تهديدا حقيقيا، حتى مع دخول الطائرات المسيرة على الخط في الشهرين الاخيرين، هذه الطائرات نفسها لا تتعدى كونها وسائل سياسية الغرض منها هو إيصال «الرسائل» إلى وجهاتها في قاعدة عين الأسد وقاعدة حرير، او حتى مدينة أربيل، وهي مواقع لا تصل إليها رسائل الكاتيوشا.
من هنا تبدو فكرة المقاومة في العراق لدى هذه الميليشيات فعلا سياسيا محض يخلو من المبدأ الأخلاقي، ولا يمثل هدفا في حد ذاته إنما يرتبط بتحقيق مصالح لا علاقة لها بالعراق من الأصل، فالمقاومة، كأي مبدأ أخلاقي، غير قابل للتجزئة والانتهازية والبروباغاندا، أو ممارسة الحرب بالوكالة!
العناوين الاكثر قراءة









 

العودة إلى المقالات

cron