الوثيقة | مشاهدة الموضوع - مقامرة عراقية سادسة: حق البقاء أم حق الاختيار؟ مثنى عبد الله
تغيير حجم الخط     

مقامرة عراقية سادسة: حق البقاء أم حق الاختيار؟ مثنى عبد الله

مشاركة » الثلاثاء أكتوبر 05, 2021 3:24 pm

5.jpg
 
في علم السياسة يقال، إن أكبر خدمة تقدمها الانتخابات هي التأكيد على قيمة وكرامة الإنسان، لأن التصويت يمنح الناس فرصة التعبير عن آرائهم، ومن خلال هذه الممارسة يتعزز احترام الذات. وعزوف الناس عن التصويت، معناه إعلان واضح بأن المجتمع بات يشعر بحالة من الغربة إزاء النظام السياسي القائم، بل حالة اغتراب داخل الوطن الذي ينتمي إليه.
بعد بضعة أيام سيُدعى العراقيون للتصويت في سادس انتخابات تقام منذ الغزو في عام 2003، وعلى الرغم من أن الكثير من ورش التفكير المعطوب باتت تردد ومنذ فترة، بأن هذه الانتخابات ستكون حاسمة وتقرر مصير العراق، فإنها هي ذاتها قالت الشيء نفسه في كل الانتخابات السابقة، ابتداء من الأولى عام 2005 وحتى الأخيرة عام 2018 التي لم يشارك فيها إلا 20% في أعلى التوقعات.
ومع ذلك لا مصير العراق تغير، ولا الطاقم السياسي تبدل، وهذه نتيجة حتمية تماما، فأين القوى السياسية والاجتماعية التي تسعى للتغيير الإيجابي، ونشر ثقافة سياسية صحيحة، كي لا تسمح لماكنة الانتخابات أن تعيد إنتاج الواقع السياسي والاجتماعي الكارثي نفسه؟ وأين القيم الديمقراطية الحقيقية، وتقاليد التسامح والقبول بالآخر واختلاف الرأي؟ اختزال الديمقراطية بالعملية الانتخابية المزورة، والأكثرية العددية الطائفية والإثنية تشويه متعمد لها، وبالتالي ستعيد إنتاج رؤساء جمهورية بجينات الرئيس الحالي برهم صالح نفسه، ومن سبقه، ورؤساء حكومات يحملون «دي أن» أي الجعفري والمالكي والعبادي وعبدالمهدي والكاظمي أنفسهم، ورؤساء برلمان من العقلية السياسية للحلبوسي نفسه ومن سبقه.

الديمقراطية تنمو في حقول التنمية الاقتصادية والأمن، وضمن نسيج وطني متماسك وحريات وثقافة مستنيرة وعقلانية

إن الانتخابات المبكرة في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، التي قيل إنها جاءت نزولا عند رغبة المتظاهرين الذي خرجوا في ثورة تشرين 2019، لن تفلح في تحقيق شعارات الثورة على أرض الواقع كحقائق ملموسة. فمهما كان نوع الانتخابات، مبكرة، أم اعتيادية، ومعها النظام السياسي أيضا، لم تعد قادرة على إنتاج حل في العراق. والسبب في ذلك هو، أن النظام السياسي الذي يُعد للانتخابات، ويتدخل في تشكيل المفوضية المستقلة للانتخابات، والمال السياسي، والميليشيات، جميعها هي الفاعل الرئيسي في هذه العملية. لقد التفّ هذا النظام السياسي ببدلة مدرعة منذ ثورة تشرين، وبدل أن يبحث في جذور الرفض والاحتجاج الذي أعلنته الجماهير، راح يطور من وسائل العنف لأغراض المواجهة اليوم ومستقبلا. كما خرجت القوى الطاردة للدولة علنا بسلاحها إلى الشارع، مستعرضة قوتها أمام المؤسسات الحكومية في تطور دراماتيكي، الهدف منه إشاعة الخوف والهلع في صفوف الناس، كي تثبت أنها هي من يملك السلطة والدولة، وبذلك سقطت المراهنة مرة أخرى، في ما يقال من أن الانتخابات في العراق يمكن أن تكون أداة سلمية وقانونية لمعالجة الاختناقات والاختلافات، والنزاعات على السلطة والنفوذ والحكم، بل أثبتت كل الانتخابات السابقة أنها أداة غير قانونية، وأنها في كل مرة تعيد إنتاج العديد من الصدامات والكوارث.
إن أول شروط نجاح الانتخابات هو عودة العراق إلى مرحلة الدولة الوطنية، وتحقيق ذلك مرهون بالقوى السياسية التي تتحكم بالمشهد، كما يعتمد بصورة أساسية على الإجابة عن ما هي بنيتها؟ وما هي تركيبتها العقائدية؟ وما طبيعة ولاءاتها الدولية والإقليمية؟ وهذه كلها اليوم معوقات حقيقية وليست مفاتيح حل، لأنها كلها لا تملك قرارها الخاص، كما أن ضمان النجاح مرتبط أيضا بأن تكون الانتخابات خطوة ضمن سياق كامل من الانتقال الطوعي نحو الديمقراطية الدستورية، المسبوقة بعدالة اجتماعية ومساواة في الحقوق والواجبات وسيادة القانون. صحيح أن عدم وجود انتخابات يقع ضمن مفهوم الاستبداد في العرف السياسي، لكن الانتخابات التي لا تستطيع قيادة وتطوير المجتمع وتنميته سيتولد عنها استبداد من نوع آخر، يمكن وصفه بأنه استبداد قانوني، فالناخب وفي ظل جو كارثي عام، وعدم وجود ثقافة ديمقراطية حقيقية، سوف يقع في حيرة من أمره ويسيء الاختيار. صحيح أن الانتخابات صورة ديمقراطية ومظهر حضاري، لكنها ليست هدفا بحد ذاته، بل هي وسيلة. والخطورة الكبرى تكمن في إجرائها في ظروف غير صحيحة، لانها ستفرز نتائج غير حقيقية يتحمل الشعب وزرها إلى حين. كما يجب عدم النظر إلى العملية الانتخابية على أنها القوة الوحيدة التي تقينا شرور الواقع، وتطرد الشياطين التي تتراقص على المسرح السياسي، يجب أن يكون هنالك رسوخ في التقاليد والأعراف الديمقراطية، يجب أن تكون الحدود بين الدولة والمجتمع والسلطات معروفة مسبقا، وبغير هذه القواعد لن تكون الانتخابات مجالا للاختيار الحر والنزيه المقبول من الناس.
أما الموقف الدولي من الانتخابات المقبلة فهو الموقف نفسه من العملية السياسية وانتخاباتها الزائفة طوال الثمانية عشر عاما الماضية، فقد اصطفت القوى الدولية الفاعلة مع النظام، على الرغم من كل الخروقات، سواء في العملية الانتخابية، أو في الممارسات الحكومية ككل، بل إن الولايات المتحدة الأمريكية كانت مشاركا أصيلا وفاعلا في التزييف والتزوير، فقد تحركت في الانتخابات السابقة على قوى سياسية معارضة للعملية السياسية في دول عديدة، ووعدتها بشكل صريح بحجز مقاعد لها في البرلمان والحكومة، في حالة موافقتها على مصالحة النظام والتخلي عن المعارضة.. واليوم سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية في الأمم المتحدة، تطالب الحكومة العراقية بحماية المراقبين الدوليين، وردع تزوير الانتخابات والمساهمة في نزاهة وشفافية العملية الانتخابية، وبذلك تكون كمن يطلب من الثعلب أن يحمي أمن الدجاج.
لقد بات الموقف الدولي محكوما بما يسمونه «موازنة الرعب» بين القوى السياسية، تجنبا لحصول الصدام الكبير، أي أن المجتمع الدولي بات قادرا على شرعنة كل الانتخابات مهما حصل فيها من تزوير، فالمهم أن يحصل جميع وكلائهم على الحصص، من دون أن يخرج أحدهم خاسرا. إن ما يعانيه العراق من خلل بنيوي في علاقة الدولة بالمجتمع، وتحول الدولة إلى سلطة، والدفع بالمجتمع للعودة إلى ما قبل الدولة، وعجز القانون عن أن يكون سيدا، كلها عوامل حاسمة في جعل الانتخابات مأزقا كبيراً، وسببا من أسباب تعميق الإشكالات والانشقاقات والانقسامات، وسيقبع الناخب بين نار التزوير ونار سوء الاختيار. لذلك فالعراق ليس بحاجة إلى انتخابات، بقدر ما هو في حاجة ماسة إلى التصدي للازمات التي يعيشها، ومواجهة الحقائق على المستويين الداخلي والخارجي، فلم يعد ممكنا للعراقيين المقامرة بالمجهول، لان حق البقاء بات الشغل الشاغل لهم أكثر من حق الاختيار. واهم من يعتقد أن الانتخابات صناديق وبطاقات بارومترية ومراقبون دوليون.. الانتخابات هي القدرة على توفير الإرادة الحرة للناس في الذهاب دون ضغط للاختيار، والديمقراطية تنمو وتترعرع في حقول التنمية الاقتصادية والأمن والاستقرار المجتمعي، وضمن نسيج وطني متماسك وحريات وثقافة مستنيرة وعقلانية.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية
العناوين الاكثر قراءة









 

العودة إلى المقالات

cron