الوثيقة | مشاهدة الموضوع - طنطورة”.. فيلم وثائقي عن مذبحة إسرائيلية في النكبة الفلسطينية يتغلب فيه الواقع
تغيير حجم الخط     

طنطورة”.. فيلم وثائقي عن مذبحة إسرائيلية في النكبة الفلسطينية يتغلب فيه الواقع

مشاركة » الاثنين يناير 24, 2022 4:50 pm

6.jpg
 
الناصرة- “القدس العربي”: شاهدتُ ليلة البارحة فيلم “طنطورة” الجديد للمخرج الإسرائيلي غير المتاح حاليا، والمبني على اعترافات إسرائيلية وشهادات فلسطينية. “طنطورة” فيلم وثائقي عُرض قبل أيام في مهرجان السينما الدولي في الولايات المتحدة، ومُنحتْ فرصة مشاهدته لعدد من الصحافيين وهو صورة مصغرة لفلسطين ونكبتها: من أجمل الشواطئ والقرى الساحلية المدهشة على كل ساحل البحر الأبيض المتوسط ببيوتها الحجرية ورمالها الذهبية ومياهها المعدنية وأهلها الطيبين ممن تميزوا بأحوالهم الاقتصادية الاجتماعية الجيدة بفضل زراعتهم وتجارتهم ومينائهم الصغير، حتى جاء مجرمون من وحدة “ألكسندروني” الصهيونية وصبغوها بالأحمر ليلة 22 من مايو/ أيار 1948.

هؤلاء كانوا جنودا في الجيش الإسرائيلي النظامي، وارتكبوا المجزرة بعد أسبوع من قيام الدولة اليهودية، لا في عصابات صهيونية. وفي الفيلم الذي ترد وقائعه بالعبرية والإنكليزية وأحيانا بالعربية، يقول موشيه ديامنت أحد جنود وحدة ألكسندروني التي احتلت القرية وارتكبت مذبحتها: “قُتل القرويون برصاص متوحش باستخدام مدفع رشاش في نهاية المعركة. ولاحقا بعدما تمت ملاحقة طالب ماجستير فضح المذبحة في 1998 كتموا الأمر، وقال كثيرون من أفراد ألكسندروني” يجب عدم الحديث عمّا جرى، فقد يتسبب في فضيحة كاملة”.
7.jpg
 


الفيلم الذي شارك في إنتاجه الناشط وموثق قرى ساحل الكرمل، سامي العلي، من قرية جسر الزرقاء المجاورة، يفضح محاولات بعض قادة الجيش الإسرائيلي التستر على حقيقة المذبحة في ذات يوم ارتكابها. إذ تم استدعاء مصورين وصحافيين محليين وأجانب على بعد من الطنطورة لتوثيق مشاهدة المساعدة (كتقديم الماء) التي يقدمها جنود صهاينة للنساء والأطفال بعد طردهم من ديارهم، وذلك في محاولة استباقية لمنع الانتقادات وتشويه الحقيقة كما يؤكد الفيلم الإسرائيلي.
برميل يقطر دماً

يقول جندي آخر في الفيلم: “ليس من الجيد قول هذا، لقد وضعوهم في برميل وأطلقوا عليهم النار في البرميل، أتذكر صورة البرميل يقطر دماً. كما روى حاييم ليفين أحد الجنود السابقين في وحدة ألكسندروني: “أحد أفراد الوحدة ذهب إلى مجموعة من 15 أو 20 أسير حرب وقتلهم جميعا وهم يرفعون أياديهم فوق رؤوسهم”. وأضاف: “ببساطة لم يتصرفوا مثل البشر في القرية. أصبت حينها بالذهول، ولما تحدثت إلى رفاقي في محاولة لمعرفة ما يجري، قيل لي: ليست لديك فكرة عن العدد الذي قتله هؤلاء الرجال منّا”.

وفي شهادته المقتضبة، يتحدث جندي سابق آخر يدعى عامي تسور كوهين، عن أشهره الأولى كجندي مقاتل في الحرب ضمن صفوف جيش الاحتلال، ويقول وهو يقهقه: “كنت قاتلاً، قتلت حتى من كانت أيديهم مرفوعة إلى الأعلى، لم أعدّ، كان في الرشاش 250 طلقة”. وتضاف شهادات جنود ألكسندروني إلى الشهادات المكتوبة التي أدلى بها سابقٍ يوسف بن اليعازر، منذ حوالي عقدين، وفيها قال: “كنت أحد الجنود الذين شاركوا في احتلال الطنطورة، وكنت على علم بجريمة القتل في القرية، فقد بادر بعض الجنود بالقتل”.

شاهد عيان

وبالنسبة لعدد الضحايا طبقا للشهادات في الفيلم، فهو غير واضح، بين “حفنة” قُتلوا و”عشرات العشرات”، وبحسب إحدى الشهادات التي أدلى بها أحد سكان مستوطنة “زخرون يعقوب” (زمارين) المجاورة والذي ساعد في دفن الضحايا، فإن عدد القتلى تجاوز 200، وهذا ما يؤكده أهالي القرية وشهود عيان من بعض الناجين من المذبحة منهم الشيخ مصطفى المصري (أبو جميل) وهو الآخر يقدم روايته في الفيلم بالعربية العامية.

أبو جميل (88 عاما) الشاهد على بعض فصول المذبحة يستعيد ذلك بالقول: “كنا 14 شخصا لكنهم تركوني أنا وكمان طفل كان عامل عملية جراحية اسمه طه أبو صفية. طلعونا وعلى بعد عشرة أمتار طخوا (قتلوا) البقية. وقتها لاقانا (صادفنا) واحد يهودي مصاب، فسألني وين رايح ولا؟ فقلت أنا رايح عند الأولاد، فقال لي: يلا روح تخيب فقلت: ليش بتقولي تخيب فقام ضربني وطرحني وبعد ثوان طخ الزلام ومنهم أبوي وأخوي ودفنوهن كلهن في قبر جماعي، وين موقف السيارات اليوم. في موقع ثاني وين العمارة واقفة اليوم، اطلعوا عشرات من الشباب على المعتقلات وبقي 30 واحد فطخوهن (قتلوهم)”. مذكّرا باستشهاد عشرات الرجال وثلاث نساء من الطنطورة كانت إحداهن ذاهبة لتخبز ولم تدر ما يجري، إضافة إلى سيدة أخرى كانت قد تركت أطفالها في بيت الشيخ المصري بعدما سمعت عن إطلاق النار على شقيقها فسارعت للتثبت من ذلك، وهي تحمل جرة ماء على رأسها، فأطلقوا رصاصة عليها، ولما وصل أهالي الفريديس لدفن القتلى، قالوا إن الجرة ظلت سالمة ولم تصب بأذى.

في تحقيق سابق للباحث الفلسطيني مصطفى الولي نشره في سوريا قبل أن يتعرض للتهجير إلى ألمانيا، قام بمطابقة الأرقام حسب روايات الشهود. وردا سؤال “القدس العربي” يذكر أن العدد الذي توصل إليه 109 إلى 112 فقط. ويتابع: “مع الأسف لم أسجل أسماء الضحايا. فقط أوردت أسماء بعضهم. الأخوة الأربعة من عائلة السلبود، قُتل اثنان منهم في الدفاع عن القرية، وخلال دفنهما، طلب جنود الهاغاناه من شقيقين آخرين حفر قبر لأخويهما، ولما انتهيا من الحفر قتلوهما وألقوا بالجميع في القبر.

لكن الناشطة سلوى خطيب، ابنة الطنطورة واللاجئة في الدنمارك اليوم (محررة صفحة الطنطورة لن تفقد الذاكرة) وثقت أسماء الشهداء (نحو 130 شهيدا) مع ناشطتين من أراضي 48، هما جيهان سرحان وهيلين محاجنة، وذلك بالاستناد لمقابلات مع أهالي الطنطورة في الوطن والشتات وساهمن معا في صياغة قائمة غير كاملة لقتلى المذبحة عام 2016.

أسفل موقف المراكب
8.jpg
 

شهادات الفيلم جاءت موجزة ومترددة ومنقوصة أحيانا، أو مكتفية بالتلميح الغليظ، لكنها تقدم صورة واضحة قاطعة، وهي تشير إلى أنه بعد المذبحة، دفن جنود الاحتلال الإسرائيلي الضحايا في مقبرة جماعية، وهي الآن تحت موقف سيارات شاطئ متنزه “دور”. وحسب المقارنات بين الصور الجوية البريطانية والإسرائيلية قبل وبعد 1948 وبمساعدة تقنيات معاينة ثلاثية الأبعاد، يمتد القبر على طول 35 مترا بعرض أربعة أمتار. ويكشف الفيلم من خلال كل ذلك، واستنادا لمهندس إسرائيلي خبير، أنه بعد نحو عام من قيام إسرائيل، تم تفريغ القبر الجماعي من محتواه ونقل الجثامين ليبدو حفرة في باطن الأرض تم طمرها كما تؤكد صور جوية وتقنيات متقدمة بشكل واضح.
إسكات الحقيقة

وعن ذلك يقول المؤرخ تيدي كاتس في الفيلم: “اهتموا بإخفائه (القبر) بطريقة تجعل الأجيال القادمة تسير عليه دون أن تعرف على ماذا تخطو”. وكان كاتس وقتها طالبا في الخمسينات من عمره في جامعة حيفا، وقدم رسالة ماجستير إلى قسم تاريخ الشرق الأوسط، لدى المؤرخ المشرف الراحل بروفيسور قيس فرو عنوانها: “خروج العرب من القرى عند سفح جبل الكرمل الجنوبي عام 1948”.

وحاز كاتس على درجة 98، ووفقًا لتقاليد المؤسسة الأكاديمية، تم إيداع البحث في مكتبة الجامعة، وكان المؤلف ينوي متابعة دراسات الدكتوراة، لكن خطته تغيرت. في يناير/كانون الثاني 2000، استعار الصحافي أمير غيلات الدراسة من المكتبة، ونشر تقريرا عن الدراسة في صحيفة “معاريف” فقامت القيامة في إسرائيل ولم تقعد، وسارع أفراد وحدة ألكسندروني للضغط على كاتس، نافين كل ما جاء في وظيفته البحثية رغم أنها تستند في جوهرها لمقابلات مسجلة مع أفراد الوحدة ومع فلسطينيين بلغت في مجملها نحو 130 شهادة.

وإلى جانب دعوى التشهير التي أطلقتها جمعية قدامى المحاربين في لواء الإسكندروني، تفاعلت جامعة حيفا مع الضجة، وقررت تشكيل لجنة لإعادة فحص أطروحة الماجستير رغم أن المراجعين الأصليين وجدوا أن كاتس قد أكمل الأطروحة بامتياز. ويوجه الفيلم إصبع الاتهام لجامعة حيفا بأنها ساهمت بتخليها عن طالبها وعن دراسته في إسكات الحقيقة حول الأحداث الدموية في الطنطورة على مدى سنوات. أما كاتس، فقد وقّع بعد جلسة استماع واحدة في المحكمة، اعتذارا أعلن فيه أنه “لم تكن هناك مذبحة في القرية وأن أطروحته كانت فيها أخطاء” ولاحقا تراجع عن اعتذاره.

الحقيقة انتصرت
9.jpg
 

وفي الفيلم، يقول المحامي أفيغدور فيلدمان، المدافع عن تيدي كاتس، إنه لم يكن حاضرا في الجلسة الليلية التي تعرض فيها موكله لضغوط، ومُنع من تبليغه بمجرد الضغوط الممارسة ضده وبلقائه ببعض خريجي وحدة ألكسندروني داخل مكتب المحامي المدافع عنهم. ويضيف: “تصرفوا كاللصوص في الليل من أجل دفن حقيقة هذه المذبحة وربما دفن كاتس معها، ولكنهم في نهاية المطاف كانوا أغبياء، فلو صمتوا لبقيت القضية طي الكتمان. ففي اعتراضهم وتقديمهم دعوى قضائية، تنبه العالم لها، والأهم أن الحقيقة انتصرت عليهم في نهاية المطاف”. وفي الفيلم يتحدث المؤرخ الإسرائيلي، يوآف جيلبر بصلف واستعلائية، فيطعن في مصداقية الروايات التاريخية الشفوية، ويقول إنها ليست أكثر من فولكلور. كما حمل بشدة على كاتس وطعن في مهنيته. ورغم الاعترافات الإسرائيلية الكثيرة بارتكاب مذبحة بحق أناس غير مسلّحين، ما زال يتمسك بمزاعمه بأن “بضع عشرات من العرب قُتلوا في المعركة، لكن لم تحدث مذبحة بعد انتهائها”.
مركز لمواجهة إنكار النكبة

من جهته، ينقل الفيلم عن المؤرخ بيني موريس، قوله إنه من المستحيل تحديد ما حدث بشكل لا لبس فيه، لكن بعد قراءة العديد من الشهادات وإجراء مقابلات مع بعض قدامى المحاربين في وحدة ألكسندروني، خرج بشعور من القلق العميق. في المقابل يؤكد المؤرخ إيلان بابيه في الفيلم، أن مذبحة قد ارتُكبت في الطنطورة، وأن شهادات الجنود ورغم كونها مقتضبة جدا، تحسم النقاش”.

فرصة نادرة وثمينة
10.jpg
 

بعد 74 عاما، ما زالت مُشاهدة وسماع أحاديث معظم هؤلاء الشهود الإسرائيليين في الفيلم مقززة، ليس فقط بسبب مذبحة وقتل 200 من سكان الطنطورة رغم انتهاء احتلال القرية التي قاومت حتى آخر طلقة، بل هم مقززون بلغتهم المتغطرسة وبضحكاتهم إلى حد القهقهة وهم يستذكرون القتل والاغتصاب وقتل العمّ الذي سارع لنجدة ابنة شقيقه من اغتصاب جندي لها داخل منزل أهلها. كذلك حديث بعض سكان “كيبوتس دور” ممن سكنوا داخل بيوت أهالي الطنطورة بعد طردهم بساعات. عندما سيعرض الفيلم الذي يطول نحو ساعة ونصف الساعة للمُشاهدة العامة، ستثير مشاهده الوثائقية ردودا واسعة رغم التقادم، خاصة أنه يصب الماء على طاحونة الرواية التاريخية الفلسطينية.

لا يعقل أن تمر مثل هذه الفرصة النادرة (بحكم الاعترافات الإسرائيلية) دون متابعة وإحياء وقائعها التاريخية مجددا لأهميتها البالغة من عدو نواحٍ. على الأقل السعي لتسييج منطقة القبر الجماعي وبناء نصب تذكاري هناك قريبا من الموقع، وقضّ مضاجع أبناء “اليسار الصهيوني” المقيمين داخل البلدتين اليهوديتين التعاونيتين “دور” و”نحشوليم” على أنقاض القرية المستباحة. ينبغي السعي والمطالبة بذلك بصوت عالٍ رغم الرفض المتوقع طبعا، مثلما ينبغي المبادرة لذلك، وهذا أضعف الإيمان حتى لو بقيت ضمائرهم ميتة. على الأقل السعي لحرمان كل المسؤولين والمشاركين في هذه الجرائم ضد البشرية من الاستكانة والنسيان وتذكيرهم بما حصل وبما اقترفوه وبما سكتوا عنه، كذلك تذكير سكان المستوطنتين من “اليسار الصهيوني، بأن مراكبهم تقوم على قبر جماعي فلسطيني لسكان البلاد، وأن بيوتهم تقوم على أراضي أصحاب القرية. ويتوجب تذكير هؤلاء المستمتعين بأجمل السواحل والبحار الفلسطينية والمساحات الواسعة، أن الناجين من المذبحة وذريتهم يعيشون (معظمهم ) الآن داخل علبة سردين اسمها مخيم طولكرم بعدما كانوا في واحدة من “جنات الله على الأرض” كما يؤكد محمد فوزي طنجي من الطنطورة، المقيم كلاجئ في طولكرم اليوم.

اعتراف إسرائيلي كامل أولا.. قبل فكرة المصالحة
11.jpg
 

وقد أحسن تيدي كاتس معد وظيفة جامعية عن الطنطورة بقوله في نهاية الفيلم: “لا يمكن أن تتم مصالحة بين الجانبين بدون اعتراف رسمي من قبل إسرائيل بمسؤوليتها عن فظائعها المروعة بحق الشعب الفلسطيني في نكبة 1948. هذا الفيلم الشجاع الذي يستحق مخرجه وكل من شارك فيه التحية والاحترام، فرصةٌ ذهبيةٌ لإحياء وتعميم مثل هذه المقولة كي تسمع كل يوم. فهذه المرة هناك اعتراف إسرائيلي نادر بجريمة حرب بحق فلسطينيين، ولذا فهي فرصة لتصعيد المطالبة باعتراف إسرائيل رسميا عن جرائمها وتحمل مسؤولية تبعاتها، علاوة على إعادة الاعتبار لضحايا المجزرة بنصب تذكاري، وإعادة دفن رفاتهم وتسييج المقبرة وحمايتها في المكان. والأهم، هو التأكيد مجددا على عودة أهالي الطنطورة لبلدتهم كحق راسخ لهم. حينما يُسمح ببثّ الفيلم، ستكون هذه فرصة ثمينة أيضا لعرض الفيلم في كل واحدة من البلدات العربية الفلسطينية وفي كل مكان واستضافة المخرج في بلدات أراضي 48. فهو درس تاريخي يسد فقدان التثقيف السياسي المفقود في هذه المرحلة، وإثراء المعرفة عن معاني الصهيونية وعن هذا الصراع الكبير المفتوح بما في ذلك المعركة على الرواية والوعي، فهي الأخرى ما زال بابها مفتوحا على مصراعيه.
12.jpg
 

قائمة بأسماء شهداء مذبحة الطنطورة

الطنطورة لن تفقد الذاكرة
العناوين الاكثر قراءة









 

العودة إلى تقارير

cron