الوثيقة | مشاهدة الموضوع - شقيقتي في مخيم الهول : ابراهيم الزيدي
تغيير حجم الخط     

شقيقتي في مخيم الهول : ابراهيم الزيدي

مشاركة » الخميس سبتمبر 15, 2022 11:03 am

منذ ربع قرن أو أكثر وأنا أعمل في الصحافة، ربع قرن وأنا أكتب للناس، عن الناس، طيلة تلك الفترة كنت أدرب نفسي على الحياد على نقل الخبر، أو صورة ما يحدث، بأمانة تقتضيها الصحافة. وها أنا اليوم أمام تجربة جديدة، تجربة مغايرة. ها أنا أمام نصّ موضوعه شقيقتي. فهل أستطيع أن أحافظ على المسافة التي يقتضيها الحياد الصحافي؟
ترددت كثيراً قبل الكتابة، إذ من الصعب أن تكتب بموضوعية عن امرأة زوجها مقاتل في جيش الدولة الإسلامية (داعش)، فما بالك إذا كانت تلك المرأة شقيقتك، إلا أن صوتها الذي أيقظ هاتفي ليلة أمس، رفع غطاء الذاكرة عن ذكريات لا يمكن تجاوز آلامها، إلّا إذا كتبتها، فالبوح جزء من علاج الألم. قبل أن يطلّ قمر صوتها على ظلام أيامي، كنت قد نسيتها، أو تناسيتها، إلاّ أن الرائد لا يكذب أهله؛ ولا ينساهم أيضاً. قبل أن أسمع صوتها، كنت أعتقد أن أصوات الأشقاء، مثل أصوات بقية الناس، قد ننساها؛ وقد تلتبس علينا؛ وتتشابه مع أصوات الآخرين. كنت أعتقد أن أصوات الأشقاء نسمعها بآذاننا؛ وليس بقلوبنا. لقد خاب ظني، وعرفت صوتها منذ النبرة الأولى، رغم انقطاعي الطويل عن سماعه!
(ألو) وتوقفت الكرة الأرضية عن الدوران! لبثت برهة أبحث عن صوتي بين أنقاض الحياة التي فرضتها عليّ الظروف!
(ألو) يا ألله ماذا أقول؟! إنها هي، إنها شقيقتي، إنها ما زالت حيّة، إنها على قيد الانتماء العائلي، إنها في مكان فيه الهواتف الخليوية على قيد الاتصال، إنها.. إنها.. ورحت في احتمالات لا يمكن حصرها.

تعثر صوتي قليلاً، فأجبتها بـ(ألو) لا أعرف كيف نطقت تلك الـ(ألو) اليتيمة؛ النافرة: البليدة؛ تلك الـ(ألو) التي تقول إنني على الخط، إنني أسمعها؛ ولا تقول شيئاً غير ذلك.
فقالت: (السلام عليكم) لست أدري لماذا توقفت عند تلك التحية، علماً أننا نسمعها في اليوم مئات المرات، ونتداولها مع الآخرين كثيراً، أيّ حاجز هذا الذي وضعته كلمة (السلام عليكم) بيني وبين شقيقتي، ولماذا؟ لماذا لا أتوقف عند هذه التحية حين يقولها لي صاحبي، جاري؛ زميلي في العمل؛ المذيع في التلفزيون؟ متى أصبحت هذه التحية ماركة مسجلة باسم الإسلام السياسي؟ لقد توقفت عند تلك التحية لأننا لا نستعملها بيننا كإخوة، لهذا السبب؛ وليس لأي سبب آخر، فلكل أسرة لغة خاصة بأفراد العائلة، لغة مشفّرة، لغة تتغلب فيها مفاهيم التحبب على مفاهيم الاحترام، إلّا أن تلك اللغة – على ما يبدو- قد نسيتها شقيقتي. أردت أن أكسر المسافة بيننا، بل كل المسافات، فقلت لها مازحاً: أليس صوتك عورة يا أمة الله؟ فضحكت تلك الضحكة التي تخلخل كل الأحكام المسبقة، وانداح نهر الحديث بيننا.
قالت: إنها في (مخيم الهول) التي لا تعرف أين يقع، وإن غالبية الموجودين في المخيم هم من النساء والأطفال، وإن المخيم خاضع لقوات الأسايش. وإن كل شيء في المخيم سيئ، إلا أنه يعتبر جيداً بالنسبة للحياة التي عاشتها قبل وصولها إليه.

كانت شقيقتي قد تزوجت منذ عقدين من الزمن، ولم يكن زوجها يختلف عن بقية الناس. على ما يبدو بعض نقاط الاختلاف كانت كامنة في شخصيته، وقد ظهرت بعد عام 2011، وهذه النقاط لم تكن شكليّة. فهو لم يطلق لحيته كما جرت عادة المتدينين، ولم يستبدل لباسه (البنطال والقميص) بالزي (الأفغاني). كان ككل الناس في محافظة الرقة، يذهب إلى المسجد يوم الجمعة للصلاة. يصوم رمضان، ويقوم ليلة القدر. يحلّل الحلال، ويحرّم الحرام، ويريد من زوجته أن تكون محجبة، وهذا ما فعلته شقيقتي بعد أن تعرفت عليه، فهي لم تكن محجبة قبل معرفتها به، فالحجاب ليس غريباً على عائلتي، فوالدتي وشقيقاتي الأكبر منها كلهن محجبات. لم أكن على معرفة به قبل زواجه من شقيقتي، وبعد زواجه منها لم نستطع أن نكون أصدقاء، لعدم وجود قواسم مشتركة بيننا، لذلك كانت لقاءاتنا مقتصرة على أيام المناسبات العامة، أو الخاصة (العائلية). طوال عقدين من الزمن كانت العلاقة بيننا مبنية على الاحترام الذي تقتضيه المصاهرة. إلى أن احتلت (داعش) الرقة، وجعلتها عاصمة دولتها الإسلامية، آنذاك بدأت التغيرات تظهر على شخصيته، وأول تلك التغيرات، وأخطرها؛ كان استعماله لمصطلحات التكفير، وعدم قبوله للآخر، بل رفضه لوجود الآخر، مما أخافني منه.

غادرنا الرقة، وبقيت شقيقتي في بيتها في الرقة، وصرت أتتبع أخبارها، من الرقة إلى دير الزور، ومن ثم البوكمال، وبعدها انقطعت عني أخبارها.
ثم عادت وكالات الأنباء إلى ذكر المربع الأخير لداعش في قرية الباغوز، وعادت مع تلك الأخبار هواجسي. لم أسألها عن زوجها، ولم تأت هي على ذكره، أخبرتني بأفراحها الجديدة، من تلك الأفراح أنها استطاعت أن تحضر لأطفالها طعاماً، وأكلوا.. وشبعوا، وأنها استطاعت أن توفر لهم حماماً، وماء ساخناً وصابونا. وأردفت لا تستغرب، لقد عشنا أياماً دون طعام، وأياماً أخرى كان طعامنا من حشائش الأرض. أما الحمام، فإنه في الأشهر الماضية تحول إلى ترف، وأصبح التفكير فيه ضرباً من الجنون. قلت لها: كنت أعتقد أن الهول في مخيم الهول. فقالت: الهول بالنسبة لكم، أمّا بالنسبة لما رأيناه وعشناه من خوف وحرمان، فإن أي مكان يعتبر جنة، فالمخيم حسبما تقول يتلقى الدعم من منظمات عديدة، من بينها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ولجنة الإنقاذ الدولية، والمجلس النرويجي للاجئين، والهلال الأحمر الكردي. إلا أنها رغم ذلك ما زالت تساكن مجموعة من النساء في خيمة واحدة، وما زالت بانتظار الحصول على خيمة! لقد سألتني شقيقتي عن كل شيء يخص حالنا وأحوالنا، إلا أنني لم أسألها عن أي شيء، ما جدوى أن تعرف، ولا تستطيع أن تقدم لها المساعدة، فكل ما أخبرتني به يؤلمني، وما لم تخبرني به أعتقد أن ألمه يفوق ألم ما أخبرتني به، لذلك تركتها تخبرني ما تريدني أن أعرفه عنها، وانتهى بيننا الحديث، ولست أدري إن كان سيتوفر لها فرصة اتصال أخرى، أم لا.

كاتب سوري
العناوين الاكثر قراءة









 

العودة إلى المقالات

cron