الوثيقة | مشاهدة الموضوع - سلال السياسة الأمريكية: حطام بعد كلّ البيض : صبحي حديدي
تغيير حجم الخط     

سلال السياسة الأمريكية: حطام بعد كلّ البيض : صبحي حديدي

مشاركة » الأحد مارس 12, 2023 3:01 pm

5.jpg
 
في أعقاب حرب الخليج الثانية، والغزو الأمريكي للعراق سنة 2003، لاح أنّ القوى الكبرى المهيمنة على مسرح السياسة الدولية موزّعة على ثلاثة محاور: تلك السائرة في ركب واشنطن (الاتحاد الأوروبي وعشرات الدول الأجرام أو شبه التابعيات المعلَنة أو المبطنة)؛ وتلك التي لا تسير مباشرة، ولكنها تتواطأ أو تصمت أو تتشارك في قليل أو كثير (روسيا والصين، بصفة خاصة)؛ ثمّ حفنة دول صاعدة، ببطء أو بخطى حثيثة، مثل الهند أو البرازيل أو سنغافورة أو إيران أو تركيا…) تقف في منزلة بين المنزلتين، وإنْ كانت عموماً لا تعكّر صفو الخطط الأمريكية على نطاق كوني.
اليوم تغيرت المعطيات، على المحاور الثلاثة، بمعدلات متفاوتة هنا وهناك؛ الأبرز فيها، مع ذلك، منهجية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في السعي الحثيث إلى كسر القطبية الأمريكية الأحادية؛ وخطوط التلاقي المتزايدة مع الصين، على مستويات شتى تبدأ من تنافس تكنولوجي حامي الوطيس، يُترجم بقوّة إلى حروب تجارية شاملة؛ ثمّ ما يسفر عن هذا التقاطع الأمريكي/ الروسي/ الصيني من اختراقات جيو -سياسة تُدخل موسكو وبكين إلى عمق القارّة الأفريقية مثلاً، أو تجعل مرتزقة فاغنر بقيادة طبّاخ بوتين معادلة عسكرية حاسمة أو تكاد، في ليبيا كما في أوكرانيا.
وليس عجيباً، أو بالأحرى هي خلاصة مآلات منطقية لمشهد كهذا، أن تلتقي في موسكو خطوط إيرانية وسعودية وتركية؛ رغم ما يفرّق هذه الدول من اعتبارات غير بعيدة أصلاً عن استقطابات واشنطن إلى عهد قريب فقط. أو أن تتولى بكين الوساطة بين طهران والرياض، بعد طول خصام واشتباك. أو أن تقيم دولة الاحتلال الإسرائيلي موازين علاقات رغيدة بين واشنطن وموسكو وأبو ظبي والخرطوم، في آن معاً.
وأمّا أمريكا فقد كانت ذات يوم الأمّة التي لا غنى عنها كما اعتادت مادلين أولبرايت أن تردّد كلما رنّ ناقوس معاد لأمريكا في العالم الواسع الشاسع. وهذه أمّة تقول الأرقام إنها تنفق على السلاح والجيوش والقضايا الأخرى المتفرعة عن فكرة الأمن القومي ما يزيد على مجموع ما ينفقه العالم بأسره. وفي عام 1993، كسنة قياس أولى بعد طيّ صفحة الحرب الباردة، كان نصف مليون عسكري أمريكي ينتشرون في 395 قاعدة عسكرية كبيرة، وفي مئات القواعد الثانوية الأصغر، في 53 بلداً أجنبياً.
جديرة بالاستذكار، أيضاً، تلك الحقيقة التي تقول إنه منذ الحرب العالمية الثانية وحتى عشية اندلاع حرب الخليج الثانية، أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 200 مليار دولار لتدريب وإعداد وتسليح جيوش أجنبية في أكثر من 80 بلداً؛ أسفرت عن أكثر من 75 انقلاباً عسكرياً، وعشرات الحروب الأهلية التي تسببت في مئات الآلاف من الضحايا. وفي غمرة ذلك كله كانت تجري عمليات دائمة من تصنيع العدو (الكاذب، الغائب…) وتأثيمه إلى المدى الأقصى الذي يبرّر التدخل العسكري، والغزو، والانقلاب، وإشعال الحروب الأهلية. كانت هذه هي الحال في بناما والبيرو والبرتغال ونيكاراغوا والتشيلي وجامايكا واليونان والدومينيكان وكوبا وفييتنام وكوريا الشمالية والعراق وليبيا ولبنان… وليس مهماً هنا أن يكون العدو إصلاحياً، أو ديمقراطياً، أو اشتراكياً، أو شيوعياً، أو إسلامياً.
العالم تغيّر، مع ذلك، ويتغيّر كلّ يوم أو حتى بين ليلة وضحاها أحياناً؛ فلم تعد الأمّة التي لا غنى عنها موضوع استقالة المحاور الثلاثة أو صمتها أو تواطؤها. وليس لهاث كبار المبعوثين الأمريكيين إلى الشرق الأوسط، على مستويات دبلوماسية وأمنية وعسكرية، سوى رأس كتلة الجليد العائمة لسياسة أمريكية في المنطقة لم تعد تتمتع بتراث السنوات الذهبية؛ التي شهدت وضع كلّ بيض المنطقة في سلّة أمريكية واحدة وحيدة يتضح اليوم أنها كانت ملأى بالثقوب والحطام والحصى.
العناوين الاكثر قراءة









 

العودة إلى المقالات

cron