الوثيقة | مشاهدة الموضوع - لم يعد من مكان لسيارة واحدة! حسن داوود
تغيير حجم الخط     

لم يعد من مكان لسيارة واحدة! حسن داوود

مشاركة » الثلاثاء أكتوبر 01, 2024 8:40 pm

1.jpg
 
ضاقت رقعة المساحة التي يتحرّك فيها المليون وسبعمئة ألف سيارة في لبنان. كان مشهدها وهي تخلي الجنوب مهولا، إذ احتاج بعضها إلى ما يزيد عن عشرين ساعة لقطع التسعين كيلومترا، وهي مسافة وسطية لكون السيارات قدمت من قرى وبلدات متفاوتة القرب والبعد. كنت أقول وأنا أراقب الزحمة في عاليه، وهي المدينة التي يظنها النازحون آمنة، أن الطرقات لن تلبث أن تتخرّب إذ هي مجهّزة في الأصل لعبور سيارات أهل المدينة ومنطقتها. أما في بيروت، الغاصّة أصلا بعدد سياراتها، فأضيف إلى عددها عدد يساويه، وهذا في الأقلّ.
نبيه سبقني إلى مشاهدة ذلك في شارع الحمراء، كان يتنزه هناك على جاري عادته حين اتصل ليقول لي، مستعملا محسّنا بديعيّا من اختراعه، إن السيارات، لتسعها الطريق، تسير في طابقين. في حياته لم يرَ شارع الحمرا هكذا، كما أضاف. وهذا ما نبّهني، أنا الذي لم أكن قد عبرت إلا في كورنيش المزرعة القريب من بيتي، إلى أنني أشاهد شيئا غريبا فيه. ففي السابق، أقصد قبل هذه الحرب، كان خطّا الكورنيش يتناوبان الازدحام، كان واحدا يزدحم في الذهاب وواحدا في الإياب. الأول، الذي يعبره النازلون إلى رأس بيروت، يزدحم في الصباح، فيما الآخر يبدأ ازدحامه بدءا من الثالثة بعد الظهر، حين ينهي الموظّفون دوام وظائفهم. في هذه الأيام الأخيرة صار الخطان مزدحمين على الدوام، وهذا ما راح يبدو لي غريبا، كما لو أن أولئك الموظّفين يجيئون ويغادرون في الوقت ذاته، طيلة النهار.
وفي أكثر شوارع بيروت أنجزت السيارات في يومين ما كان يحتاج إلى سنتين أو ثلاثة لإنجازه، أعني أن تُركن السيارات، لصق الرصيف، في صفين بدلا من صفّ واحد. كان هذا يحدث من قبل، لكن لسيارة واحدة تُبقي زجاجها مفتوحا ليفكّر الشرطي أن الرجل، أو المرأة، ذهب ليشتري شيئا وسيعود بعد لحظات. أما الآن فصار ذلك طبيعيا طالما أنه لا يحول دون إقفال الطريق في وجه السيارات المقبلة. وما يزيد من زحمة شوارع بيروت هو بطء أولئك النازحين إذ يوقف أحدهم سيارته دقيقة، أو نصف دقيقة، ليفكّر إن كان هذا المفرق يمكن أن يوصله إلى حيث هو ذاهب، ثم يتراجع عن ذلك تحت ضغط زمامير السيارات التي يظن سائقوها أنهم أمهلوه وقتا يزيد عما يجب.

سكان المدينة يعرفون النازحين من ذاك التردّد أمام المفارق، بل إن بعض السوّاقين يزعمون أنهم يعرفونهم من سياراتهم، أو على الأصح يعرفون سياراتهم من هيئاتها، هكذا مثلما يمكن أن تّعرف الوجوه. هذه السيارة ليست من هنا، هذا ما قاله الشوفير العمومي الذي أنهكته الزحمة. لكن التوتر المتأتي عن ذلك يبدو أقل حدّة مما يجب. ليس بسبب ما تذيعه نشرات الأخبار من أن النازحين هم أهلنا وأخوتنا، بل لأن الناس هم أنفسهم يتخوّفون من أن تؤوّل ردود أفعالهم تبعا لما تحذّر منه نشرات الأخبار ذاتها من إنهاض الفتنة. يلزم الهدوء، على الرغم من الازدحام الذي يجعل عبور الشارع تسابقا على بلوغ السنتمترات التي يتيحها تقدّم السيارات المغرق في بطئه. ثم إنك إن كنت ذاهبا بسيارتك إلى الحمرا لا تعرف أين تركنها. يلزم الهدوء هنا أيضا تجاه رجل الباركينغ الذي لم يكتفِ برفع السعر من مئة وخمسين ألف ليرة إلى الفين وخمسمئة ليرة، بل إنه زاد على ذلك برنامج تسعير يقضي بأن يدفع الزبون الأجرة بناء على تقويم متدرّج: «بعد الساعتين عليك أن تدفع مئة ألف عن كل ساعة تأخير».
ولا تحتجّ على ذلك لأنه وضع استثنائي ذاك الذي تعيشه المدينة. لم يعد يغيظك، كما في السابق، أن ترى أولادا نائمين على رصيف الشارع. لم تكّرر المرأة العابرة شعورها الساخط تجاه النائمين الجدد على ذاك الرصيف، بل هي أشفقت على طفل انفلتت مشايته من قدمه فقالت «حرام» لأن الولد أُخرج من بيته من دون أن يتاح له لبس حذائه. ازدحام في السيارات، وكذلك في المشاة، الذين ضاقت بهم الأرصفة فنزلوا ليمشوا في الفراغات التي تتركها السيارات والدراجات النارية، فيما هي تتزاحم. تلك الكثرة المحتشدة مُطَمئنة، إذ هي تبقي الطيارات الإسرائيلية محلّقة هناك وليس هنا. شيء مثل كرنفال يجد الناس أن عليهم أن يحافظوا على كثرتهم فيه، لظنهم أن الطائرلت ستضربه من فور ما يخلونه.

كاتب لبناني
العناوين الاكثر قراءة









 

العودة إلى المقالات