عديدة ومتنوعة هي المفارقات التي اكتنفت سنة كاملة من حرب الإبادة التي تشنها دولة الاحتلال الإسرائيلي ضدّ قطاع غزة، ويتوسع نطاقها ليشمل الضفة الغربية والقدس المحتلة وجنوب لبنان، وتتخذ صفة تصعيد إقليمية شملت قصف اليمن وممارسة الاغتيالات في قلب طهران، أو حتى استفزاز مصر وانتهاك اتفاقيات كامب دافيد بصدد محور صلاح الدين.
في رأس تلك المفارقات أن الجيش الإسرائيلي الأعلى تسليحاً ورعاية وتدريباً وتمويلاً وتنسيقاً وحماية من جانب الولايات المتحدة وشركائها الدول الأوروبية والحلف الأطلسي، قد انتهى إلى فشل ذريع في تحقيق الأهداف العسكرية والسياسية التي أعلنها منذ صبيحة 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. ولا يلوح حتى الساعة أن أياً من أغراض القضاء على المقاومة الفلسطينية أو تغيير الواقع الديمغرافي في القطاع أو التهجير القسري أو اختراق البنية الوطنية الشعبية في سائر أرجاء القطاع، قد حققت أي نجاح ملموس يعتد به.
وهذا الإخفاق تواصل يوماً بعد آخر رغم ارتكاب الاحتلال جرائم الحرب الأشد بشاعة وهمجية، من قصف المشافي والمصحات والمدارس إلى استهداف الملاجئ ومراكز الإيواء والمساجد، من دون استثناء فرق الإنقاذ والإغاثة الدولية. وتلك صنوف في ممارسة إرهاب الدولة استوجبت إدانة صريحة من محكمة العدل الدولية وبمبادرات من دول صديقة لفلسطين وشعبها مثل جنوب أفريقيا، التي سبق لها أن ذاقت ويلات التمييز العنصري ومنظومات الأبارتيد.
كذلك تكفلت أيام الإبادة وأسابيعها وأشهرها بكشف الغطاء عن أكذوبة دولة الاحتلال بوصفها «واحة الديمقراطية» الأوحد في الشرق الأوسط، فلم يفرغ عشرات آلاف الإسرائيليين من التظاهر احتجاجاً على عزم حكومة بنيامين نتنياهو على فرض تعديلات قضائية تليق بأنظمة جمهوريات الموز، حتى تلقفتهم الشوارع من جديد احتجاجاً على إهمال ملف الإفراج عن الرهائن لصالح الإيغال أكثر فأكثر في حرب همجية لم تعد تخدم سوى أجندات نتنياهو الشخصية وإفلاته من القضاء وتهم الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة.
كما انكشفت تباعاً شتى أشكال النفاق السياسي والأخلاقي لدى غالبية ساحقة من الديمقراطيات الغربية التي تتشدق حول حقوق الإنسان والقانون الدولي، لكنها إذا لم تسكت عن فظائع الإبادة الإسرائيلية فإنها تلجأ إلى أفانين لا حصر لها من التواطؤ مع الاحتلال، سواء عن طريق توفير أسلحة التدمير المحرّمة أو ضخّ الأموال والتكنولوجيا أو نشر البوارج وحاملات الطائرات، أو تأمين التغطية الدبلوماسية في المحافل الدولية.
ولعلّ في طليعة المفارقات أن البربرية التي اتسمت بها جرائم حرب الاحتلال دفعت شرائح واسعة على امتداد الرأي العام العالمي، خاصة في أوساط الشباب وطلبة الجامعات، إلى مراجعة الاحتكار الإسرائيلي لشخصية الضحية الكونية، بحيث افتُضحت أكثر من ذي قبل ما يطلق عليه باحثون إسرائيليون ويهود تسمية «صناعة الهولوكوست». الجندي الإسرائيلي الذي يقتل ويقصف ويخرب وينهب لم يعد حفيد ضحايا أوشفتز، بل صار جلاد القسوة القصوى في قطاع غزة وسائر فلسطين، ثم جنوب لبنان أيضاً.
هو بالتالي عام على أطوار ما بعد احتكار المحرقة، أو اليوم التالي لصناعة إسرائيلية قديمة عمادها سفك دماء الأبرياء.