كي نميز ما يحدث ببلاد الرّافدين، مِن عجائبَ وغرائبَ، نؤكد أنْ ما جاء في أهلها: «أهل العقول الصّحيحة والشّهوات الممدوحة، والشّمائل الموزونة، والبراعة في كلِّ صناعة»(المسعودي، التنبيه والإشراف)، قصد نخبة الأمس؛ النُخبة التي طفت ورسبت في بحر الزّمن، وعلى قلتها- طبيعة النخب ضئيلة العدد فائقة العِدة- كانت عنوان البلاد الأبرز، واليوم مع وجود أماثل، مِمَن قصدهم المسعودي(تـ: 346هـ) وغيره، إلا أنَّ عنوانها صار الرَّثاثة، وكأنَّ العِراق عَقم عن ولادة نخبة، يُنتصر بها للعقل؛ كالتي ذَكرنا.
نقول ما تقدم قصد النّخبة، الغائبة المغيبة اليوم، وإلا نجد في خطبة عبد الملك بن مروان(حكم: 65-86هـ)، وهو يستعد لمنازلة الأزارقة (فرقة متطرفة أباحت قتل أطفال المخالفين)، ما يعكس الصُّورة، في أزمنة الثَّورات والاضطرابات: «أيها النَّاس! إنَّ العِراق، قد تكدر ماؤها(وهي أم الرَّافدين)، وظهر جدبها، ملح عذبها، وبدا وميضها، وأشتد ضرامها، وكثر لهبها، وثار قتامها (السواد الحالك)، وعظم شررها، وعلا أمرها، وأبرق رعودها، وكثر وقودها، بحطبٍ حيٍّ، وجمر ذكي، ودخان وهي، وهؤلاء الأزارقة، الطُّغاة المارقة، قد أشتدت شوكتهم، وتفرقت جرثومتهم(أصلهم)»(ابن أعثم، كتاب الفتوح).
هنا، لا يحسبني القارئ اللَّبيب، بأنني مع عبد الملك، وضد الأزارقة، فاعلمُ أنَّ كلاً منهما «يُغنَّي على ليلاه»، إنَّما تعاملتُ مع النَّص شاهداً، مثله مثل بيت الشّعر، بعد عزله عن مناسبته، ومع الحدث كونه منسجماً مع ما نعيشه؛ هذا، ولا أرى الأزارقة لو استولوا، سيصلحون فساداً، والمثال أزارقة اليوم بماذا هتفوا، وماذا صنعوا؟
ما يحصل مِن طائفيّة غريبة، على التّاريخ الطائفيّ نفسه، لم تكن مِن أفعال السّلطة، فرؤساء الوزراء، ورؤساء الجمهوريَّة كافة، مِن 2003 حتّى يومنا- إلا ما تورط به أمين الدَّعوة الإسلاميَّة- لم يمارسوا خِطاب الكهوف، لكنَّ قوى الأزارقة وهي المتنفذه بسلاحها، صَبت جهودها لهدم الدّولة، ومازال الخارج فراشها ودثارها، فكم مِن قائد أزرقيّ، هدد رئيس وزراء ورئيس جمهوريّة، بعزل واغتيال.
نُفذت أحكام إعدام، بقتلة الحُسين(61هـ)، ثم نبش العباسيون الهاشميون قبور الأمويين(المسعوديّ، مروج الذَّهب) ثأراً له، وجاء البويهيون، وحكم الفاطميون، والصَّفويون، فالقاجاريون، والخمينيون، لم يبدع هؤلاء نصب محاكمات بأثر تاريخيّ؛ فمَن يُحكم عليه، مِن التّاريخ، لديه أدلته لإقامة محاكمات مضادة، فالزَّمن مبارزة بين غالب ومغلوب، وشاهدنا المحاكمات الثّوريّة، التي ينصبها المنتصرون، وبعد إزاحتهم تُنصب لهم. لكنّ الأفظع جهلاً أنْ تكون واحدة مِن المحاكمات درساً تطبيقاً في كلية مِن كليات القانون؛ بينما كان العراق مِن أول بلدان المنطقة بتعليم الحقوق(1908)، ثم تجددت بمحاكمة يزيد بن معاوية(تـ: 64هـ).
إذا كان مصدر نص الاتهام التاريخ المدون، وليس سواه، فالتاريخ دَونَ أيضاً: ابن الحُسين اقتنع أنَّ يزيدَ لم يتخذ قرار القتل، كذلك اقتنع أخو الحُسين محمد بن الحنفية(تـ: 81هـ)، بما كان بينه وبين يزيدَ من مراسلات مدونة(كتاب الفتوح).
نعتمد في ما تقدم على مؤرخ يبغض الأمويين، أحمد بن أعثم الكوفيّ( تـ: نحو314 هـ)، وكتابه «الفتوح»، تحدث عن منزلة ابن الحُسين السّجاد(تـ: 95هـ) عند يزيد، ففي اجتياح المدينة، حيث وقعة «الحَرة»(63هـ)، صارت داره ملجأً للمطلوبين، وبينهم أمويون كبار، حتى ولنا تشبيهها بدار أبي سفيان عند فتح مكة، وكذلك الحال مع ابن الحنفيَّة.
يثور السُّؤال: لماذا يحدث هذا بالعِراق اليوم، والمحاكمات تقصد مَن، إذا لم تقصد حرق الجيل الحاضر؟ والفعل فعل أمثال الأزارقة، الذين يتعاظم نفوذهم كلما جفت العقول وتحنطت، فليس مِن مصلحتهم مغادرة الماضي، لأنَّ في حوادثه أسواقاً وأرزاقاً.
أقول: ليت السُّلطة تأخذ بحماسة شاعر بني تميم: «اذَا الجَهلُ أَمسَى قاعِدًا لَم نَقُم بهِ/ ونَضرِبُ رأسَ الجَهلِ حِينَ يقُومُ»(كتاب الفتوح، والدُّر الفريد)، لا تنسحب هذا الانسحاب المريب.