ربّ قائلٍ يقول: وما مدرستك الابتدائيَّة، كي تفرد لمئويتها (1924–2024) مقالاً، فلا هي «أم آي تي» ولا «كيمبردج»؟ أقول: نعم، قياساً بالزَّمن والمكان، كانت هكذا، قرية قصية وسط الأهوار، لا شيء غير الماء والبردي، تشكلت مِن 600 جزيرة، عدها الاجتماعي شاكر مصطفى سليم (ت: 1985) في أطروحته «دراسة أنثربولوجيا لقرية في أهوار العراق» (جامعة لندن 1955).
طلب مني أحفاد أحفاد جيل «الأسديَّة» الأول، مشاركتهم لإحياء الذكرى، الأحفاد المحاطون اليوم بطاردات العقل، فكلٌّ صار يملك الحقّ بمنبرٍ ومدرسة، فلم يبق لما قدمته «الأسديَّة» إلا الذِّكريات، لكنَّ نداء الأحفاد للاحتفاء بمدرستهم يُقلل الأسى، مع ولادتهم تحت أهوال الحروب والحملات الإيمانيَّة، وما بعد القولِ قولٌ: «سينهضُ مِن صَميمِ اليأسِ جيلٌ/ مريدُ البأسِ جبارٌ عنيدُ» (الجواهريّ، أبوظبي: 1979).
تأسست الأسديَّة (1924)، حال سقوط المشيخة، بأربع طائرت بريطانيَّة، لم تدون المعركة غير المتكافئة، وكفاني ما قصه والدي، وكان شاهد عيان، وما ذكره الموثق عبدالرّزاق الحسني (ت: 1996) ضمن رسالة نشرها للشيخ سالم الخيّون (ت: 1954) في «تاريخ الوزارات»، فقبيل الهجوم على مشيخته وهدم قصره، اعتُقل بالبصرة، ونفي لسنوات.
عقب المشيخة، وسعت الدولة حضورها، فشيدت مركزاً للدوائر، ومستوصفاً طبياً، ومدرسةً، سميت نسبةً للقبيلة (بني أسد)، وبما أنَّ ما حصل ليس ثورةً، ولا ممارسة انتقام، احتفظ أبناء المشيخة بحظوتهم الاجتماعيّة، فمنهم يُختار المراقب العام للمدرسة، وكذلك رئاسة البلدية فيهم حتَّى انقلاب (1968). بعدها التحقت البنات في صفوف البنين، بلا اعتراض.
طبقت «الأسديَّة» منهج الدَّولة بحزم، في الصَّباح يُذكر اسم الملك، وصورته على الدفاتر، الموزعة مجاناً. كان أسعد الأوقات توزيع «التغذية»: بيض يجلبه التَّلاميذ مِن بيوتهم، البيضة مقابل عشرة فلوس، تُقدم مع بصل أخضر، وحليب، وخبزٍ، مع كبسولة زيت السَّمك. حتّى ذلك الوقت لا توجد هتافات وشعارات، غير رفع العلم، لكنها سنوات، تلاقفت الأحزاب تلامذتها.
عاد أحد تلاميذ الأسديَّة، من المدرسة الرّيفيّة، ليكون مديراً، الأستاذ وحيد الأسدي، ولا أظن أحداً مِن جيلنا وقبله، يسميه بغير «استاد وحيد». كان مهيباً أنيقاً، لا نجرؤ على ملاقاته خارج المدرسة. يقف في الصباح، وكأنه قادم مِن صالون أناقة، ليعلن رفع العَلم، والتَّفتيش على النَّظافة، فإن وجد ما لا يعجبه يقول: «الماء بلاش»! حتّى دارت الأيام، وصار الماء بفلوس، بينما المنطقة كانت أكثر ماءً مما قصده ابنُ جُبير (ت: 614 هج): «سئمت أرضها كثرة الماء، حتَّى اشتاقت إلى الظَّماء» (تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار).
كان معلمو «الأسديَّة» مِن الأديان والمذاهب والأقوام: شيعة، سُنَّة، يهود، مسيحيون، صابئة، وأكراد، تنتهي خدمتهم، ويظلون على صِلة بالمنطقة. لا نتذكر أحداً سأل عن ضمائرهم وانتماءاتهم. خرج مِن الأسديَّة أدباء وكُتاب ومحامون ومهندسون وأطباء، نافسوا ببغداد، بينهم تلميذها ومعلمنا القاص فهد الأسديّ (ت: 2013).
لا أدري ماذا سيقول مَنْ قدم دعايته الانتخابيَّة (2010) بالافتراء: «يريدوننا نترك ديننا، نترك مرجعيتنا، تركوا مناطقنا بلا مدارس»، وقد كذبته اللوحة القديمة في واجهة «الأسديَّة» (تأسست 1924). تسلم أخطر المراكز، ولم يفتح مدرسةً، والأسديَّة منذ تأسيسها تشغل بناءً، بينما كثرت مع إسلامه السّياسيّ مدارس «الأكواخ»، وحصران يجلبها التَّلاميذ من بيوتهم.
عصمتنا «الأسديّة» مِن الخرافة، لذا ظلت عقولنا سليمة مِن الجهالة، خلاف الحال في عهد صاحبنا، صارت المدارس مفرخات للرثاثة، بهتك الحدود بين المدارس والمجالس، فإذا كانت المواهب ترفع أصحابها، صار عدمها الرّافعة.
كانت «الأسديَّة» عند تأسيسها واحدة مِن (221) مدرسة بالعراق كافة (الدَّليل العراقي 1936)، تستحق مئويتها التّذكار، وقد سرني حضورها في ذاكرة الجيل الحاضر، وسرني أنها احتفظت باسمها، وقد تبدلت أسماء جامعات ومعاهد، لتحل محلها أسماء ليس لها فضل في وجودها، بل أضرت بالعراق في معارضتها وسلطتها.