على الرغم من الرغبة العامة، والفرحة الشعبية في لبنان بعد الإعلان عن التوصل الى اتفاق لوقف إطلاق النار ووضع حد للهمجية الاسرائيلية في قصف المناطق السكنية واستهداف المدنيين بصورة متعمدة، وهو حق مشروع ومفهوم، الا ان واقع الحال يظهر ان هذا التوقف يخدم اسرائيل اكثر من خدمته للبنان، والأكثر ايلاما ان الولايات المتحدة نجحت مرة اخرى في إنقاذ الكيان المحتل من هزيمة منكرة وغير مسبوقة كانت ملامحها تبدو في الأفق، وان الواقع كان يقول ان القوة والجبروت الإسرائيلي لم يعد يخيف المقاومة. الأمر المؤسف أكثر ان الإتفاق اذا ما طبق، سيترك غزة والمقاومة الفلسطينية لوحدها في الساحة امام عدو يصر على عدم ابقاء اي نوع من انواع الحياة في المناطق الفلسطينية، وغزة بالذات.
منذ اسابيع، ونتيجة لأداء المقاومة في لبنان، بدأت إسرائيل ترسل إشارات الى الولايات المتحدة تطالبها بتحقيق وقف لإطلاق النار، بل بدا واضحا انها ارادت التوصل اليه باي ثمن. وان كل محاولات نتنياهو لتحويل القبول به الى نصر سياسي كبير فشلت فشلا ذريعا. حاول نتنياهو ان يظهر بمظهر المنتصر عند إعلان موافقته على الاتفاق، ولكن ما بدا يصدر عن اطراف في حكومته ومن المعارضة اظهر خيبة امل كبيرة في اداء جيش الاحتلال وقيادته وفي عمل القيادة السياسية كلها في التصدي للمقاومة. المضحك ان رئيس الوزراء الاسرائيلي برر القبول بوقف إطلاق النار بانه لغرض (التركيز على ايران وأذرعها في المنطقة). وبالتأكيد فان هذا الادعاء هو محاولة جديدة للحصول على فرصة اطول للبقاء في الحكم وسط الأزمات التي تحيط به من كل جانب، وانه جاء لاضطراره الى تناسي كل التهديدات والأهداف التي حددها عند إعلانه الهجوم على لبنان، ابتداء من تدمير المقاومة وانتهاء بسحب أسلحتها وترحيلها الى شمال الليطاني، وفي احيان قال إخراجها من لبنان كله. وهذا الكلام لا نقوله نحن بل ان طوائف كثيرة من الإسرائيليين، وهم ثلثي السكان، الذين أظهروا خيبة املهم بالإتفاق لأنه لم يحقق اي من الأهداف التي وضعها نتنياهو، بل انه كان أوطأ بكثير مما كان يطرحه. وهذه الأصوات نفسها تتساءل الآن كيف بإمكان إسرائيل المهزومة ان تواجه (ايران وأذرعها في المنطقة)؟ واذا كان جيش الإحتلال قد فشل على مدى 13 شهرا في هزم المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية فكيف سيتمكن من تحقيق الهدف الجديد. كما انهم يسالون نتنياهو لماذا لا يقبل باتفاق مماثل لإعادة الأسرى؟ طبعا هم يعرفون السبب جيدا وهو اي وقف تام للحرب على غزة يعني سقوط حكومة نتنياهو وخضوعه لمحاكمات ومحاسبات طويلة قد تودي به الى السجن.
من ناحية اخرى فان الاتفاق يثير ملاحظات كثيرة، اولها انه جاء مطاطيا، صحيح انه لم يشدد على البنود المتعنتة التي كان الموفد الامريكي هوكشتاين يصر عليها، وهي نزع سلاح المقاومة وانسحابها الى شمال الليطاني، كشرط لوقف الهجوم الاسرائيلي، إلا انه احتوى على تطمينات لإسرائيل متمثلة، كما قال نتنياهو، بوعود أمريكية لاستئناف القتال في حال خرقه من الجانب الاخر. ومع ذلك فان كل الدلائل تشير الى ان اسرائيل كانت تلهث وراء الوصول اليه بعد ان لقنتها المقاومة اللبنانية دروسا لن تنساها، واهمها انها جعلت المناطق الفلسطينية المحتلة، وبالذات الكبيرة منها مقابل المدن اللبنانية التي كانت القصف الاسرائيلي يستهدفها، تل ابيب مقابل بيروت وحيفا ونهاريا مقابل صور والضاحية الجنوبية ومناطق الجليل مقابل مدن الشريط الحدودي اللبناني.
ثانيهما ان وقف إطلاق النار اظهر همجية القصف الجوي الاسرائيلي وكشف الحجم الهائل من استهداف المناطق السكنية والأهداف المدنية التي لا علاقة لها ببنية او مخازن او مقرات حزب الله، التي كان جيش الاحتلال يدعي انه كان يستهدفها. كما ان مراسلي قنوات فضائية اظهروا ان كل ادعاء اسرائيل بانه احتل مدنا وقريات على حدود لبنان مع فلسطين المحتلة كانت غير صحيحة. فالخيام ما زالت صامدة وكذلك بنت جبيل (عاصمة المقاومة والتحرير). الملفت للنظر ان ابناء اغلب المناطق التي استهدفها جيش الاحتلال واجبر سكانها على النزوح، بدأوا بالعودة وهم يرفعون إعلام المقاومة، بينما سكان المستعمرات الاسرائيلية لم يجرأوا على العودة لمناطقهم. علما بان السلطات الاسرائيلية تمنع رسميا نشر اي صور لحجم الدمار الذي تعرضت له المدن والمستعمرات الاسرائيلية جراء صواريخ المقاومة، ولكن مواقع التواصل الاجتماعي من داخل دولة الاحتلال ما زالت تعج بصور هذا الدمار، وتطهر ان بعضها لم يعد صالحا للعيش، وان السكان يرفضون العودة، وحتى السلطات الاسرائيلية ما زالت تمنع المهجرين من العودة لصعوبة ضمان سلامتهم، الامر الذي يُكَذّب الادعاء بان القبول بوقف إطلاق النار هو لإعادة المهجرين الذين أجبرتهم المقاومة اللبنانية على ترك مساكنهم.
طبعا هناك عقبات كبيرة تقف امام تنفيذ هذا الإتفاق، اولها يتعلق بقدرة الجيش اللبناني، المحروم من التسليح المناسب والموارد المطلوبة، على القيام بالمهام التي اناطها به الاتفاق، وثانيها الفقرة التي تقول أن لإسرائيل الحق في شن الهجمات الجوية والمدفعية في حالة شعورها بالحاجة لذلك، وثالثها محاولات إسرائيل إبطاء إنسحابها من اجزاء الاراضي اللبنانية البسيطة التي توغلت فيها على الشريط الحدودي. ثم ان اللجنة الخماسية والتي تقودها الولايات المتحدة تبقى طرفا غير نزيها في المراقبة. صحيح ان الولايات المتحدة تقول ان الإتفاق هو لوقف الحرب، لكنه لحد الآن يبدو بانة وقف مؤقت لإطلاق النار، وان القتال قد يشتعل في أية لحظة.
اما بالنسبة لغزة المقاومة الصامدة، فيبدو ان قدرها ان تبقى لوحدها في ساحة الشرف والكرامة، وانها اثبتت انها قادرة، رغم الماسي والقتل والتجويع والتهجير والحصار وعدم مبالاة ذوي القربى وهدم المستشفيات والمدارس والجوامع، على الثبات ومواجهة الإحتلال بكل صبر ورباطة جأش.
كاتب واكاديمي عراقي