كنا على قاطع “الكشك” البصري وقد بذل آمر لوائنا جهودا مضنية مع جنوده في سبيل تحكيم المواقع القتالية ،و أصبح الموقع مثالياً في إرتفاع سواتره وتحكيمها ،وتنظيم مواقع معيشة الجنود بغرف صغيرة مبينة من السمنت والبلوك مع تحكيم المواضع تحكيما شديداً من حديد السكك الحديدية في السقوف مع كمية هائلة من التراب الذي يخفف كثيراً من قذائف المدفعية المتوسطة والثقيلة نوعاً ما ،وفي أثناء انشغال اللواء بالتحكيمات التي استغرقت فترة طويلة ،كان واجب استطلاع القواطع المجاورة مستمرا ،حيث يتم زيارة واستكشاف القواطع المجاورة بصورة دورية وعلى مستويات السرايا والفصائل والافواج ، ومسألة استطلاع القواطع على الجبهة ومعرفة طرق ومسارب الدخول والخروج وتضاريس المواقع مهمة جدا جدا في حالة حدوث خروقات واحتلال مواطئ اقدام من قبل العدو وتكمن الأهمية البالغة في استدعاء قطعات إحتياطية مجاورة تعرف طبيعة الأرض وتضاريسها ولاتدخل دخول الأعمى الذي يتلمس دربه بالكاد .
وكان فوجنا في منطقة إعادة التدريب قرب صحراء البصرة ،وفي مناطق التدريب تعسكر القطعات ويكون اسكانها في خيم عسكرية ،وكان لدينا آمر فوج من أهل الموصل غريب الاطباع جدا ،حيث ما أن تميل الشمس إلى مغيبها يركب عجلة الواز الخاصة به ويغادر إلى البصرة متذرعا أنه ذاهب إلى زيارات ميدانية لبقية القطعات في جبهة البصرة المترامية الأطراف ويلقي المسؤولية على مساعده ،ويتمتع آمر الفوج بعلاقة متينة مع آمر لوائنا اذ يغض الآمر النظر عن كثير من تصرفاته الحمقاء ،ويقول عنه أنه رجل مقاتل بألف رجل .
وفي أحد المساءات غادر آمر فوجنا كعادته إلى مساء البصرة لزيارة الملاهي الليلية التي يديرها عدد من الفنانين العرب ،وعند الساعة التاسعة من تلك الليلة حدث هجوم وخرق متوسط القوة على جبهة “مجنون”، وتمكن المهاجمون من احتلال بعض المعابر ،حيث ان منطقة مجنون هي أراض منخفضة تكثر فيها المياه يعني اهوار ،وحدث أن صدرت أوامر حازمة باستعادة المعابر مهما كان الثمن ،وتم تبليغ لوائنا باعتباره قوة إحتياطية بالاستعداد لتنفيذ الهجوم المقابل ،فقام مساعد الفوج بأستحضار الاستعدادات المطلوبة للهجوم المقابل وهو يلعن ويسب اليوم الذي نقل فيه ليكون مساعدا لهذا الفوج وآمره الطائش الذي يعود كل يوم مع حمايته مخمورا تاركا مهام إدارة الفوج على المساعد ،والمساعد المسكين يعلم بأن آمر اللواء يغض نظره عن تصرفات آمر الفوج ،فيقوم المساعد بإطلاق صرخات الاحتجاج امامنا فقط ،وعند حضور آمر الفوج يبدي أمامه بعض الانزعاج والتذمر من تصرفاته فيرد عليه صاحبنا بعبارة :”أخي العزيز انا وأنت مقتولين مقتولين إن لم يكن اليوم فغدا حتما فدعني أذهب للموت فرحان جذلا قد أخذت معي كل المرح “،
تحرك فوجنا إلى منطقة الخرق استعدادا لاسترجاع المواضع الساقطة ،وحسنا دفعت قيادة الفيلق باستخدام لوائنا لأننا نعرف المواضع المحتلة تمام المعرفة ،والمواضع عبارة عن سواتر ترابية في عمق هور مجنون النفطي ،تحيط بها المياه الراكدة من كل الجوانب ،ويوجد عدة معابر على هذه السواتر وهي عبارة عن قنوات اروائية تنظيمية للمناورة بكمية المياه .
تمركز فوجنا في منطقة المثابة استعداد للصولة حسب الخطة الموضوعة من قبل قيادة الموقع ،للعلم أن هم القيادة الميدانية الأول والأخير استعادة المواضع الساقطة بيد العدو بغض النظر عن حجم الخسائر المتوقعة وكأن الجنود هم علب سمك سردين يتم التضحية بهم فقط من أجل إنقاذ رؤوس الضباط من ذوي الرتب العالية من الموت الذي يحيط بهم نتيجة اخفاقات تقديراتهم ،والخطأ القاتل الذي تقع فيه القيادات الميدانية والاعلى منها هو التعامل مع المعركة كردة فعل على الحدث الآني وليس كمبادرين بالحدث .
وفي أثناء تجمعنا ونحن نعلم علم اليقين أن المعركة لن تبدأ قبل بزوغ الضياء الأول من فجر تلك الليلة ،اثناء ذلك عاد السيد آمر فوجنا من سهرته الليلة مع حمايته عاد إلى موقع فوجنا في منطقة للتدريب وعجلته قد أضاءت مصابيحها الأمامية وهي تسير بخط متعرج لأن حتى السائق ثمل ،وعند وصولهم شاهدوا أن الخيم فارغة إلا من بعض المتروكين من جرحى المعارك السابقة ومن العائدين من مراكز تداول الجرحى ومن لجان شرحبيل التي يعرفها كل العراقيون ،الهواء يعبث بأطراف الخيم لخلوها من الساكنين ،عند بوابة المخيم نزل السيد آمر الفوج المنتشي سائلا حرس البوابة ،ها ولك وين الفوج ،? أجاب الجندي بكل برود سيدي من ساعة 11باليل الفوج تحرك على مجنون هنالك هجوم قوي ،صاح بصوت عالي طالبا المخابرين المتروكين ،حضر احدهم فأمره فوراً بتأمين إتصال لاسلكي مع مساعد الفوج ،اجاب المخابر سيدي إحنا متصلين مع الفوج من الليل تفضل مع السيد المساعد ،خلال مكالمة لم تستغرق دقائق علم آمر الفوج الموقع الذي هم فيه وأمر بالتحرك الفوري والسريع إلى المكان المعلوم ،خلال أقل من ساعة وصل آمر الفوج إلى مكان التحشد ،تهللت اسارير المساعد وقفز فرحا مرحبا به ،اخذ آمر الفوج ايجازا بسيطا وسريعا عن الموقف ثم التفت إلى جنود سرية مقر الفوج قائلاً ، أولادي وإخواني ،; اللي يخاف من الموت لايتبعني أنا عندي إتفاق مع ملك الموت.
لايأخذ من فوجي إلا الخائف والمتردد ،! ويم الشجعان لايقترب نهائي ،صاح جنود سرية المقر فقط من المتواجدين حول الآمر بصوت قوي كعادة العراقيين عد عيناك سيدي والله مايوم قصرت ويانا ،بالك عالروح اتباريها الموت أولها وتاليها ،قفز آمر الفوج وقفز معه عشرات الجنود فيهم المخابر والسائق والحماية وحتى المراسل ،قفزوا بكل همة ونشاط غير مستترين يركضون خلف الآمر ومنهم من يسبقه وهم يطلقون صلياتهم المتواصلة قبل الالتحام مع العدو وبدون إسناد ناري مدفعي في البداية ،قامت سرية إسناد الفوج بعدة رميات متواصلة من مدافع الهاونات ساترين تقدم جماعتهم ،كان المخابر المرافق لامر الفوج جندي مخابر مسيحي يركض بمحاذاة الآمر وجهاز المخابرة اللاسلكي محمول على ظهره ، توقف آمر الفوج بعد أن أخذ منه التعب ما أخذ قائلا ها ولكم وين وصلنا ،اجاب احدهم إحنا سيدي على المعبر رقم 9 أجاب الأمر ولكن الإيجاز الذي تلقيته من المساعد أن المعابر 6و7و8 هي الساقطة بيد العدو سيدي واجبنا الرئيسي حسبما سمعت من المساعد هو إخلاء ضباط ثلاثة وعدد من الجنود في معبر 8 ولقد تركناهم قبل 200متر خلفنا ، طلب آمر الفوج تأمين إتصال مع آمر اللواء في البداية سأله آمر اللواء هاي وينك مقدم مهنا ويقصد آمر اللواء من أول الليل نحن نبحث عنك ،اجاب آمر الفوج “سيدي عد عيناك أنا على المعبر رقم 9 وتم تحرير المواقع الساقطة وهرب العدو هروبا مريعا واوقعنا به خسائر فادحة “
تأكد آمر اللواء من معلومات آمر الفوج حيث تطابق حديثه مع تقارير المراصد وخصوصا أن الشمس أشرقت وأصبحت الرؤية واضحة جدا ،شكر آمر اللواء المقاتل المندفع وحياه ثم ألتفت إلى هيئة الركن قائلاً ألم أقل لكم أن مهنا رجل بألف رجل هذا فعله أمامكم ، جلس آمر الفوج يدخن سيجارة النصر وقال لمرافقيه ولكم اش وصلنا لهنا والله لو صاحيين ماتقدمنا أكثر من 100 متر ،في المساء صدر بيان القيادة العامة في أجهزة الإعلام وهو يحمل تفصيل المعركة ويذكر الإسم الثلاثي لآمر الفوج ويشيد ببطولته ،حقا أن الفضل يعود لاندفاع آمر الفوج حيث حرر مواقع مهمة بجنود غير مؤهلين لهذا الواجب وكانت التقديرات أن يتم الهجوم اولا بسريتين تعقبهما سريتان ثم يتم زج فوج او فوجين مغاوير عند تعذر تحقيق الهدف سريعا لأن الأرض لا تسمح بتواجد حشد كبير من المقاتلين ،.
تمت ترقية آمر الفوج وأصبح آمر لواء في قاطع نهر جاسم واشتبك مع العدو .
وفي أحد المعارك تم جلب أسرى أثناء المعركة تمكن أحد الأسرى من الإفلات من قيده وسحب قاذفة RBG7 سددها ووجهها الى ظهر آمر اللواء الذي كان منبطحا على الساتر يوجه قطعاته من خلال جهاز المخابرة فأرداه بالحال ،وهكذا انتهى العقد المبرم بين ملك الموت والمقاتل البطل ،وذهب إلى الحياة الأخرى فرحان جذلا يردد مقطعا من أغاني سعد الحلي “أنا اوحييد.” للمعلومات بقت محكمة البصرة الجزائية تلح على إحضار المقدم الشهيد للمثول امامها بتهمة تحطيمه لملهى ليلى تملكه المدعوة ميرفت ،ولقد حضرت شخصيا أمام المحكمة واقسمت أمام القاضي بأن المتهم قد استشهد في إحدى معارك نهر جاسم مستصحبا معي شهادة وفاته النسخة الأصلية، وتم غلق الدعوة رحمه اللّه كان مقاتلا فريدا شجاعا مستخفا بالموت.