إبان مشاهدتي فيلماً وثائقياً حول الديانة المرمونية في أمريكا، لفتت نظري كلمة لإحدى المعلقات في الفيلم، التي تنطبق بشدة على الحالة السياسية والاجتماعية الشمولية تماماً كما على الحالة الدينية المتطرفة، تقول المتحدثة: «هذا ما يحدث في المجموعات شديدة الإحكام كهذه، حيث ليس هو القائد فقط الذي يضطهد الأعضاء، ولكن في النهاية يتحول الجميع بطريقة ما إلى جناة؛ ذلك لأنكم مبرمجون ومدربون على ملاحقة بعضكم بعضاً وإبلاغ بعضكم عن بعض، يصبح الاضطهاد بطريقة ما منتشراً جداً، منظماً ومقبولاً تماماً». تماماً كما تنطبق هذه الجملة على المجتمعات المتطرفة ثيولوجياً، فهي تنطبق على المجتمعات المتطرفة سياسياً، حين يتحول الناس، تحت شعار كل مواطن خفير، إلى وشاة، يشي بعضهم ضد البعض، بعضهم مخبر على بعض، فيضيع تماماً الشعور بالأمان ويستبد الخوف والقلق بالنفوس. ومع هذا الضياع وذلك الاستبداد، تضعف القيمة الأخلاقية والموقف الإنساني، ويصبح هدف الناس توخي السلامة ولو مشياً بجانب الحائط.
نرى هذا مؤخراً وبقوة في المحيط العربي، حيث تغيرت التركيبات السياسية وتراجعت الديموقراطيات البسيطة التي كانت لصالح أنظمة رفعت شعار اليد التي من حديد، بحجة ضمان الأمن والأمان وضبط الأوضاع الداخلية وتوحيد الصف المجتمعي ولو على كلمة مفروضة موحدة لا مراجع لها ولا مقيم لصلاحيتها وعدالتها. في ذلك، نرى خوف الناس بعضهم من بعض، وتوجسهم من إبداء الرأي أو مجرد تبادل الحديث أمام المعارف، بل وحتى الأهل. في ذلك نرى السجون التي فتحت على مصراعيها في مصر على سبيل المثال، لتعود ظاهرة الاعتقالات الجمعية للبروز، كما نرى غياب الصوت المعارض في كافة منطقة الخليج العربي ومعه المؤسسات الديموقراطية التي كان يعمل من خلالها، كما غابت أيضاً فكرة الحريات، التي شاركت الشعوب حقيقة في كبتها، وأحياناً احتفت باختناقها. كل هذا غيض من فيض لما يحدث على الساحة العربية، وهو وضع قدم مفتاح حرية التعبير على وسائل التواصل إما لشخصيات مشبوهة غير معرفة أو لشخصيات مخربة مأجورة تعيش خارج أوطانها الأم، أو لشخصيات تافهة فارغة تعتمد البذاءة في طرحها التافة أصلاً. أصبح «صغار القوم» أخلاقياً هم من يتمتعون برفات الحرية، فيما أصبح «علية القوم» من المفكرين الأخلاقيين مربوطين، ليس فقط بالأوضاع من حولهم ولكن بمخاوفهم بل وجُبْنِهم في كثير من الأحايين.
ولربما هذا سبب رئيسي فيما أشارت له إسراء عرفات في مقال لها بعنوان «استخدام الدين كوسيلة للتأقلم النفسي وتبرير العجز العربي في زمن الإبادة»، فتقول: «لم يشهد العالم العربي ضغطاً شعبياً حقيقياً يُجبر الحكومات العربية على مراجعة تحالفاتها أو مصالحها مع إسرائيل أو حلفائها، وظلّ الحراك في معظمه موسمياً، عاطفياً، وخاضعاً لرقابة مشدّدة، لا يُشكّل تهديداً فعلياً للأنظمة. ومع هذا الغياب الفعّال للشارع العربي، صعد خطاب ديني شعبي يملأ هذا الفراغ، ويحوّل العجز إلى فضيلة، ويستبدل الفعل السياسي بالانتظار الغيبي». وهكذا، ومثلما تشير عرفات، بسبب من الخوف المستبد بالنفوس والمتشكل على وقع الرقابة المشددة على كل كلمة وفعل، حد تخوف الناس الحقيقي من الحديث أمام بعضهم البعض بوجود محمولاتهم خوفاً من التسجيل والتسريب، لم يعد الناس يتحاورون في هول المذبحة الجارية ولا في هوان مواقفنا الشعبية منها. لقد حول الخوف «العجز إلى فضيلة»، فضيلة الصبر والتحمل والانتظار، حتى انحصر الدور العربي الإسلامي تجاه الغزاويين في الدعاء لهم وفي يا للوقاحة! التفاخر بصبرهم ومطالبتهم بالاستمرار فيه. أصبح «الانتظار الغيبي» الذي سبق أن سميتُه في مقالات سابقة بالتوق إلى «المخلص» هو عنوان المرحلة، كل يرمي حموله على هذا القادم في مستقبل ما، هذا الشجاع الذي يجب أن يكون كذلك بما أنه مبعوث إلهي، الذي سيقضي على الصهاينة ويحرر القدس وينصرنا على أعدائنا ويعيد لنا كراماتنا. كل المطلوب هو الصبر والانتظار وملء فراغ صوت الشعوب، الذي يفترض أن يكون هادراً غاضباً مائجاً من المحيط إلى الخليج بأصوات الأدعية والخطب الدينية التي تحثنا على المزيد من الصبر والتي تؤكد لنا أن خلاصنا قادم لا محالة، فقط لأننا ولدنا مسلمين. ضربة حظ ممتازة وإن لم نر بعدُ استغلالها في هذه الدنيا ولا نتاجها على السلوك ومخرجاته.
نحن صامتون، على ما أتمنى، لأننا خائفون، ليس لأننا عديمو الإحساس، ليس لأننا عديمو الضمائر، ليس لأننا نعتقد أن ما يحدث هو مجرد حرب بتبعاتها بين طرفين متساويين في غزة، وليس لأننا نرى للجانب الصهيوني المحتل أي استحقاق. لا بد أن نتمنى ذلك، لا بد أن نتمنى الخوف بذله وهوانه على عدم الاكتراث أو القبول بسقوطهما الأخلاقي أو الاستحسان بكارثيته الإنسانية. لا بد أن نتمنى أن يكون سكوتنا منطوياً على غثيان روحي ورفض ضمائري وبكاء داخلي حاد وصارخ لا يتوقف. لا بد أن نتمنى أن تكون خطايانا قد وقفت حد الجبن ولم تتعدها إلى رذائل مباركة المذبحة الأكبر والأبشع والأكثر منهجية ووحشية والأشد تكالباً عسكرياً على مدنيين وأطفال عبر التاريخ الحديث. لا بد أن نتمنى ذلك، لا بد أن نطمئن أنفسنا بجبننا وانهزاميتنا وخوفنا الشديد على مصالحنا وسلامتنا وأهالينا، لسنا أكثر سقوطاً وهواناً وذلاً من ذلك. لا بد أن نؤمن أننا فقط جبناء خائفون، لا بد أن نصدق كل هذا حتى نعيش.
تضج شعوب العالم صراخاً واعتصاماً وتظاهراً، وإعادة تمثيل للمشاهد، وحملاً للصور واللوحات المكتوبة، وحملاً للتوابيت والدمى التي تمثل أعداد أطفالنا الفلسطينيين المقتولين غدراً، قصفاً بأحدث وأبشع أسلحة الدمار، جوعاً وعطشاً، مرضاً وحرقاً وبتراً للأعضاء وعلاجاً بلا مخدر، هرساً تحت مساعدات مقذوفة من السماء ورمياً بالرصاص في كمائن طعام وشراب. أطفالنا، دمنا ولحمنا ولغتنا وأدياننا، ثقافتنا وتاريخنا، إنسانيتنا كاملة يهرسون هرساً بكل صورة وطريقة ممكنة، ونحن خلف جدار الخوف كامنون، نصغي السمع ملصقين الآذان على الجدار، نسرق نظرة من على أجنابه، نرفع الرايات البيضاء من على قمته، نعرض صورة، ننشر دعاء، نسجل آية، وننتظر، ننتظر ذلك المخلص الذي سيحررنا من الصهاينة، لكن من يحررنا من جُبننا؟