بينما تتصاعد ألسنة اللهب في سماء المنطقة مع اتساع رقعة المواجهة بين طهران وتل أبيب، عاد اسم المرجع الشيعي الأعلى في العراق آية الله علي السيستاني إلى الواجهة، بعد دعوات متكررة من فصائل شيعية مسلّحة تطالبه بإصدار فتوى جهادية ضد إسرائيل والولايات المتحدة، في خطوة من شأنها – إن حدثت – أن تُطلق شرارة “معركة الشيعة الكبرى” بحسب تعبير أنصار هذه الدعوات.
وفق تقارير فإن الضغوط التي تمارسها أطراف موالية لإيران داخل العراق تهدف إلى استنساخ فتوى “الجهاد الكفائي” التي أصدرها السيستاني عام 2014 لمواجهة تنظيم داعش، حين واجهت البلاد تهديداً وجودياً.
غير أن السياق الحالي وفق مراقبون أكثر تعقيداً، وسط تجاذبات سياسية داخلية، وصراع إقليمي محتدم قد يؤدي إلى اشتعال المنطقة بأكملها.
ضغوط على السيستاني
في ظل تهديدات إسرائيلية مباشرة باغتيال المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، ارتفعت وتيرة التحركات والتصريحات من فصائل الحشد الشعبي والتيارات السياسية الشيعية المقربة من طهران.
ودعت هذه الجهات، وعلى رأسها تحالف الفتح وحركة النجباء وكتائب حزب الله، المرجعية في النجف إلى كسر صمتها وإعلان الجهاد ضد “العدو الصهيوني وحليفه الأمريكي”، كما وصفوه.
القيادي في تحالف الفتح علي الفتلاوي صرح لوسائل إعلام عراقية بأن “التعدي على الجمهورية الإسلامية هو تعدٍ على الإسلام، وإذا استهدفوا آية الله خامنئي فإنهم يستهدفون كل الشيعة، وعندها لن يكون أمامنا إلا الجهاد”.
وأضاف أن “بيانات وفتاوى الشيعة يجب أن تكون صاحبة الصوت الأعلى”، متوقعًا أن تصدر فتوى جديدة من المرجعية إذا ما تطورت الأمور أكثر.
السيستاني يحذر
في مقابل هذا التصعيد، أصدرت المرجعية الدينية العليا في النجف بياناً حذرت فيه من مغبة استمرار الضربات الإسرائيلية على إيران، منددة بما وصفته بـ”العدوان المتواصل”، لكنها توقفت عند حدود الإدانة ولم تذهب إلى حد إعلان الجهاد أو دعوة أتباعها إلى القتال.
وجاء في البيان أن “استهداف القيادة الدينية والسياسية العليا في إيران ستكون له عواقب وخيمة على استقرار المنطقة”، محذراً من أن “أية خطوة متهورة من هذا النوع قد تُغرق الإقليم في فوضى لا تُحمد عقباها”.
ويعكس هذا البيان تمسّك المرجعية التقليدي بسياسة النأي عن الانخراط المباشر في النزاعات الإقليمية، ما لم يكن هناك تهديد حقيقي وداهم للدولة العراقية.
فصائل تتوعد.. واستعدادات ميدانية
في الجنوب العراقي، وبالتحديد في مدينة البصرة، نظّم رجال دين شيعة مظاهرة عسكرية مساء الأربعاء، وارتدوا الزي القتالي ورفعوا أعلاماً عراقية وإيرانية، هاتفين ضد “العدوان الإسرائيلي على طهران”.
ويري محللون أن الحدث رسالة رمزية تعبّر عن جاهزية الفصائل للتحرك فور صدور أي توجيه من المرجعية.
الشيخ أكرم الكعبي، زعيم حركة النجباء، حذّر الولايات المتحدة وإسرائيل من مغبة المساس بخامنئي، قائلاً: “إن لمستم شعرة من الإمام، فأنتم وأذنابكم ستكونون تحت ملاحقتنا ونيراننا في كل منطقة إسلامية”.
من جانبه، وصف المتحدث باسم كتائب حزب الله أبو علي العسكري الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بـ”المعتوه الأحمق”، مضيفاً: “أخطأ في الخطاب والتوقيت، وكان عليه أن يفهم مقام الإمام قبل أن يتكلم”.
فتوى السيستاني بالجهاد بين الماضي والحاضر
المرجعية في النجف، وعلى رأسها السيستاني، لطالما عُرفت باتباع نهج دقيق ومتوازن في تعاطيها مع الأزمات السياسية والعسكرية، حيث لا تصدر فتوى جهادية إلا في حال وجود تهديد مباشر لكيان الدولة أو المجتمع العراقي، كما حصل عام 2014 بعد انهيار الجيش أمام تنظيم داعش.
وفي هذا الإطار، يرى مراقبون أن إصدار فتوى جديدة تتجاوز حدود العراق سيكون قرارًا بالغ الحساسية، إذ من شأنه جرّ البلاد إلى صراع إقليمي واسع، قد يُستخدم فيه العراقيون وقوداً لحرب ليست حربهم.
الحكومة العراقية تتمسّك بالحياد
رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني، ومن خلفه مستشارو الأمن القومي، يواجهون ضغوطاً هائلة من الفصائل المرتبطة بطهران، لكنهم حتى اللحظة يواصلون التأكيد على سياسة الحياد وعدم الزج بالعراق في الصراع الإيراني الإسرائيلي.
وفي هذا السياق، دعا مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي خلال لقائه بالسفير الفرنسي في بغداد المجتمع الدولي إلى “الضغط على إسرائيل لإيقاف عدوانها”، دون أي تلميح لموقف تصعيدي أو دعم لتحركات الفصائل المسلحة.
السيستاني أمام اختبار تاريخي
المشهد العراقي يقف على حافة الهاوية. وبينما تعوّل الفصائل المسلحة على فتوى جديدة تعيد رسم حدود الصراع، تفضّل المرجعية الدينية التمسك بمبدأ “درء الفتنة”.
فهل يصمد هذا الموقف أمام تصاعد الضغوط والتهديدات؟ وهل يعيد السيستاني إطلاق “فتوى الجهاد” ولكن هذه المرة ضد أمريكا وإسرائيل، في معركة توصف بـ”الكبرى” داخل البيت الشيعي؟