لقد كانت الحرب الأخيرة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والكيان الصهيوني بمثابة زلزال سياسي وإعلامي وثقافي، لم تُصب شظاياه الجغرافيا وحدها، بل طالت الروايات والمفاهيم، وأعادت رسم حدود الوعي العربي والإسلامي.
فمنذ أكثر من أربعين عامًا، سخّرت الأنظمة العربية الرجعية وغرف العمليات السوداء في الغرب، وعلى رأسها اللوبيات الأميركية والصهيونية، جيوشًا من الإعلاميين والمثقفين والأبواق الدينية والسياسية لتشويه صورة إيران. صُوّرت الجمهورية الإسلامية، زورًا وبهتانًا، على أنها “عدو الأمة”، و”الخطر الطائفي”، و”التهديد القادم من الشرق”. وأُنفقت المليارات لتكريس هذه الصورة في الأذهان، فيما كانت الحقيقة تُدفن تحت ركام الأكاذيب.
غير أن لحظة الصدمة الأخيرة، حين واجهت إيران العدوان الصهيوني بردٍّ مباشر ومدروس، كانت كافية لتقويض منظومة الأكاذيب بأكملها. فتحت العيون التي أُغلقت عمدًا، وسقطت الأقنعة التي اختبأ خلفها المطبعون والعملاء، وبرز إلى السطح السؤال الجوهري الذي لا مفرّ منه: من يقف فعلًا في خندق الأمة؟ ومن يبيعها على موائد واشنطن ويافا المحتلة؟
من التضليل إلى التنوير
ما عجزت عنه الخطب، والندوات، والمقالات، أنجزته صواريخ إيران الدقيقة. لم يكن الرد الإيراني محصوراً في كونه عملاً عسكريًا ، بل كان إعلانًا أخلاقيًا وسياسيًا، وصيحة وعي مدوّية في وجه من تواطأوا وصمتوا وخافوا.
بدأت الشعوب العربية، من المحيط إلى الخليج ، تعيد النظر. لم يعد سهلًا تمرير خطاب “الخطر الإيراني”، ولم يعد ممكنًا تصديق من يصرخ في وجه المقاومة ويهمس للكيان الصهيوني.
الأكاذيب التي روّجت لعقود، والتي رسمت إيران كعدوٍ خارجي، تبخّرت تحت وهج الحقيقة. اليوم، صار المشهد أوضح: هناك محور مقاومة يتقدمه شعب إيران ودولته، يقدّم الدماء والتضحيات من أجل فلسطين، وهناك محور تطبيع وتواطؤ وتبعية، يهرول نحو العدو، ويقدّم له الثروات والمنابر.
أصوات من داخل الأمة
أمام هذا التبدل الكبير، بدأت أصوات الوعي تتعالى من داخل الأمة الإسلامية. الشيخ والداعية الإسلامي الكبير الدكتور محمد راتب النابلسي، وهو من الشخصيات العلمية والدعوية ذات الحضور الواسع في العالم العربي، أعلنها بوضوح لا لبس فيه: زوال الكيان الصهيوني سيكون على يد إيران، ودعا العرب والمسلمين إلى تجاوز الخلافات، ورص الصفوف، والتوحد في خندق المقاومة.
هذه الشهادة لم تأت عابرة . إنها تعكس تحولًا حقيقيًا في نظرة قطاع واسع من العلماء والمثقفين والدعاة الذين كانوا، ربما بفعل الضغوط أو التشويش، على مسافة من إيران. لقد فرضت الأحداث نفسها، وظهرت الحقيقة التي لا يمكن لأحد إنكارها: إيران، رغم كل ما واجهته من حصار وتحريض وعدوان، لم تتخلَّ عن فلسطين، ولم تتاجر بها، ولم تساوم عليها.
من الذي خان ومن الذي وفى؟
إنّ السؤال المؤلم الذي يفرض نفسه الآن: من خان الأمة؟ من فرّط بفلسطين؟ من وقّع على اتفاقيات العار؟ من فتح أجواءه وسفاراته للعدو؟ ومن أدار ظهره لدماء الشهداء؟
في المقابل، من الذي احتضن فصائل المقاومة، ودرّب أبناءها، وموّل عملياتها، وحمل رايتها في كل محفل؟ من الذي لم يساوم على شبر من القدس؟ من الذي رسم المعادلات الجديدة وردع العدو؟
الجواب يعرفه كل شريف: إنه محور المقاومة، وفي طليعته إيران.
لحظة فارقة في الوعي الجماهيري
الحرب الأخيرة ليست جولة عسكرية. إنها تحوّل في ميزان الوعي العربي والإسلامي. لقد ظهرت المعايير الحقيقية: معيار من يقف مع الأمة، ومن يتاجر بها. معيار من يُطلق الصواريخ، ومن يُطلق الشعارات الفارغة. معيار من يزرع الأمل، ومن يزرع الوهم.
نحن نعيش اليوم لحظة الحقيقة، لحظة السقوط الأخلاقي المدوي لكل الطغاة والمنافقين الذين خدعوا شعوبهم لعقود. هذه الشعوب بدأت تقول كلمتها، وتستعيد وعيها، وترى المشهد بمنظار مختلف: إيران ليست عدوًا، بل درع الأمة. العدو هو من يحتل فلسطين، ويقصف غزة، ويحاصر الأقصى، ويقتل الأطفال، ويصنع العملاء في عواصم العرب.
نهاية الوهم وبداية اليقظة
لا بد أن يُقال بوضوح: الحرب الأخيرة أسقطت “أسطورة الخطر الإيراني”، وكشفت من هو العدو الحقيقي. وإن لم يكن الحكّام في بعض العواصم مستعدين للمراجعة، فإن الشعوب بدأت طريقها نحو التصحيح.
ولن تكون نهاية هذا الطريق إلا باندثار المشروع الصهيوني، وانتصار محور الحق، وعودة الأمة إلى جوهرها التحرّري. يومها، لن تُذكر تلك الأنظمة التي تآمرت إلا في كتب العار، أما إيران، فسيُذكر اسمها في صفحات الفخار.