هناك اسئلة كثيرة تدور في الذهن في ظل تصاعد وتيرة المواجهة الدائرة منذ اكثر من اسبوع، والمرشحة لان تطول اكثر، حول خيارات نتنياهو الذي تعود أسلوب الهروب إلى الامام وإيجاد مخارج له من خلال حروب واعتداءات خارجية. فهل سينجح هذه المرة ايضا؟
بعد الضربة الاولى التي وجّهت إلى إيران فجر يوم 13 من الشهر الحالي، تولد انطباع عام بان إسرائيل، او نتنياهو بالذات، اوشك على إكمال سلسلة (انتصاراته) على كل القوى والدول المعارضة لدولة الاحتلال، (هذه السلسلة التي وضعها الموساد الاسرائيلي، واقتنعت بها واشنطن، مستغلة احداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، والتي ضمت تدمير سبع دول هي العراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان والصومال وايران، وهذا ما اكده البروفيسور الأمريكي المعروف جيفري ساكس مؤخرا). ومع النجاحات الاولى للهجوم الإسرائيلي بدا الإعلام الإسرائيلي والغربي معه، ونتنياهو نفسه، يتحدث وكأنه اصبح الملك غير المتوج على الشرق الأوسط الجديد الذي ما فتئ يبشر به. لا بل ذهب الحديث ابعد من ذلك ووصل إلى حد ترقب ان تعلن القيادة الايرانية استسلامها واضطرارها (لتجرع السم). ولكن في ظرف 14 ساعة فقط استعادت ايران توازنها وقامت بتوجيه ضربات موجعة للكيان المحتل، وبعد اسبوع فقط تمكنت من قلب الصورة ووضعت نتنياهو في موقع المرشح لتجرع كاس السم، وهو لا يزال كذلك.
ad
في قراءة متأنية لأحداث الايام الثمان الماضية لابد وان تبرز مجموعة من الاستنتاجات او الحقائق:
ـ اولا: ان اسرائيل اعتقدت ان ضربة موجعة ومكثفة على كل مناطق ايران الحساسة العسكرية والنووية، واستهداف القيادات الكبيرة والرئيسة في المجالين سيُركِع ايران ويجعلها ترفع الراية البيضاء، او في اقل تقدير يظهرها بمظهر العاجز عن الرد والتقوقع ثم السقوط من الداخل. وهذا الاعتقاد اثبت فشله لحد الان.
ـ ثانيا: ظهر واضحا ان اغلب حسابات اسرائيل كان خاطئة، وانها وبكل إمكانيتها الاستخبارية، ومعها استخبارات الولايات المتحدة واوروبا الغربية، لم تكن على علم بالقدرات الصاروخية الإيرانية، وتفاجأت بها تماما، وكل الادعاءات الاسرائيلية بشأن تدمير ثلث او نصف القدرات الصاروخية (من حيث العدد ومنصات الإطلاق) اثبتت عدم دقتها. ثم عادت التقارير الاسرائيلية للتحدث عن تعافي الدفاعات الجوية الإيرانية ووجود خزين اكبر من المسيرات والصواريخ الأكثر تطورا. ولم ينس محدثيها ان يتهموا روسيا والصين والباكستان في تقديم الدعم لايران لكي تستوعب الضربة الاولى. وفي الحقيقة ان باكستان تقف على راس هذه الدول لسببين، الاول ان نتنياهو تحدث صراحة في لقاء تلفزيون عن ان الضربة التالية بعد ايران ستوجه إلى باكستان وبرنامجها وسلاحها النووي (الذي وصفه بالنووي الإسلامي). والثاني هو انه في المواجهة الأخيرة بين الهند وباكستان وقفت إسرائيل إلى جانب الاولى واستغلت الاحداث لكي ترسل مسيرات اسرائيلية وخبراء في هذا المجال لتخريب منشئات نووية باكستانية.
ad
ـ ثالثا: في ظل هذا الواقع الجديد هرعت الحكومة الاسرائيلية، ومؤيديها في واشنطن والغرب، لاستجداء مساعدة الرئيس ترامب وطلبت تدخله العسكري المباشر (إنقاذا لإسرائيل من الانهيار). وطبعا السيد ترامب لم يكن بحاجة لمثل هذا الطلب، حيث انه كان مساهما في كل الترتيبات والإعداد للهجوم الإسرائيلي على ايران، لا بل انه هو من قاد حملة التضليل التي سبقت الهجوم. وأعترف هو ونتنياهو بذلك. وادعى الرئيس ترامب (ان نتائج الضربات الاسرائيلية الدقيقة حققت اكثر مما كنا نتوقعه)، وليس امام ايران سوى رفع الراية البيضاء.
ـ رابعا: الآن و(بعد ذهبت السكرة وعادت الفكرة) بدأت الحسابات الامريكية تتقلب لأسباب عديدة اهمها الانقسام الشديد داخل مراكز صنع القرار الأمريكي بين مؤيد للتدخل ورافض لزج القوات الأمريكية في أتون مواجهة لا تعرف عواقبها، واستذكار تجربة حرب العراق. لهذا جاء اصرار الكونغرس الأمريكي على ضرورة استشارته قبل ان يقدم الرئيس على فعل ذلك. في هذه الحالة فان كل يوم يمضي من دون ان يعلن الرئيس ترامب مشاركة الجيش والأساطيل الأمريكية في الحرب إلى جانب إسرائيل يعني الإسراع في سقوط حكومة نتنياهو وبالضغط الشعبي الداخلي، الذي بدأ يكتشف يوما بعد يوم ان نتنياهو يطيل امد المواجهات والحروب لمصالح سياسية شخصية..
على الجانب الاخر فان قرار نتنياهو بالذهاب إلى الحرب ضد ايران وضع الرئيس ترامب (الذي صدَّق الادعاءات بان إسرائيل قادرة على انهاء الخطر الايراني)، في موقف محرج، فان لم يهرع إلى نجدة نتنياهو فان الحليف الاهم لأمريكا في العالم سيكون معرض للانهيار وربما التفتت، وان تدخل بصورة مباشرة فان سيعرض حياة جنود اميركا وقواعدها في المنطقة إلى خطر شديد وكبير، بكلمة اخرى ان مغامرة نتنياهو والرد الايراني، يتسببان في حرج للرئيس الأمريكي. هذه الحالة ربما هي ما جعلت تصريحاته تتضارب وتتفاوت بين التهديد والترغيب ووصلت اخيرا للسماح بوفد الترويكا الأوربي للاجتماع مع وزير خارجية ايران، و(إعطاء مهلة أسبوعين لطهران) كي تثبت صدق نيتها في عدم سعيها للحصول على سلاح نووي. وهو لا يزال يؤكد انه لم يصل بعد إلى قرار واضح بين خيارين: فرض وقف إطلاق نار دائم او المشاركة في الحرب. علما ان الخيار الاول لا يتوافق ورغبات نتنياهو وحكومته، بينما الخيار الثاني لا ينسجم ووعود ترامب بتجنب زج القوات الأمريكية في حروب خارجية.
ـ خامسا: ان وطأة الحرب الاقتصادية على إسرائيل اصبحت ثقيلة جدا. فاسرائيل تتكلف اكثر من مائتي مليون دولا في كل يوم عند مواجهة اعداد قليلة من الصواريخ والمسيرات الإيرانية، وهذه التكلفة تتصاعد إذا ما زادت الهجمات وطالت مدة المواجهة، واليوم يجري الحديث عن تكلفة تتجاوز ال 12 مليار دولار إذا طالت المواجهة لمدة شهر واحد. ناهيك عن تعطل الحياة الاقتصادية في فلسطين المحتلة بالكامل. صحيح ان غالبية الاسرائيليين مؤيدين لحرب تقتل الفلسطينيين وتدمر ايران، لكن هذا التأييد بدأ يتناقص بعد ان انقلبت الصورة ووصلت نتائج المواجهات التدميرية إلى عقر دارهم ومدنهم وقراهم وبيوتهم.
ـ سادسا: والاهم هو ماذا سيحصل لو ان الولايات المتحدة أحجمت عن التدخل بالطريقة والحجم الذي يطلبه نتنياهو؟ او لو انها تدخلت وفشلت في تدمير مفاعل فوردو، كما يؤكد بعض الخبراء الإسرائيليين؟ وهو راي انعكس على تصريحات للرئيس الأمريكي قال فيها ان إسرائيل لوحدها غير قادرة على تدمير المنشئات النووية، واضاف على ذلك تصريح اكثر دلالة قال فيه ان امكانية تدمير كل البرنامج النووي الايراني ومنشئاته امر صعب المنال. هذه كلها تصريحات يقول بعض المراقبين انها تنسجم مع وعوده السابقة بتجنب حروب مكلفة. ولتأكيد هذا النهج فلقد صرح يوم امس ان التهديد والتلويح بالقوة قد يأتي بنتائج إيجابية اكثر من استخدامها. واذا كان هو حقيقة يريد وعدا ايرانيا بعدم السعي وراء الحصول على سلاح نووي، فان ايران من خلال سياستها البرغماتية المعروفة بها، ولكي تتجنب مواجهة مع الولايات المتحدة، مستعدة جدا لتقديم هذه الضمانات، واصلا هي قدمتها مرة اخرى وبوضوح في الاجتماع الأخير في جنيف مع الترويكا الاوربية.
وكل هذه التصورات والتقلبات ربما تفتح باب المفاوضات بين واشنطن وطهران مرة ثانية. في هذه الحالة، او في حال استمرّت الصواريخ تنهمر على الداخل الإسرائيلي لأسبوعين او ثلاثة اخرين، فانه سوف لن يكون امام نتنياهو سوى خيارين لا ثالث لهما، الاول اللجوء لاستخدام السلاح النووي، وهذا امر ليس بالهين وسوف تكون له عواقب وخيمة على حكمه ومستقبله السياسي، والثاني القبول بتجرع كأس السم والموافقة على وقف اطلاق نار وتقبل مصيره المحتوم الذي ينتظره وهو المحاكمات والسجن.
كاتب واكاديمي عراقي