العلاقة بشارع المتنبي تعود إلى أيام الدراسة في الجامعة، يوم كنّا نقطع شوطاً من المسافات مشياً على الأقدام من كلية التربية في الوزيرية، حتى مطعم (تاجران) الذي يحتل الركن الأيمن من المدخل، مطلاً على شارع الرشيد، أو (كباب الإخلاص) وسط الشارع، يتصاعد دخانه خفيفاً، مثل عود بخور يشعل في النفس شهية للذكريات، مروراً بـ(كعك السيد)، وشربت (حاج زبالة). ومقاهي الزهاوي، (حسن عجمي)، ثم البرلمان.
منه تبدأ رحلة البحث بين المكتبات، وهي رحلة ممتعة، متعة اللقاء بالقرّاء، والباحثين، والكتّاب، هذه الرحلة كانت كفيلة بأن تدبّ فينا حياة ما، لا ندري كنهها الحقيقي، لأننا لم نجرّب غيرها، لم تتسن لنا مقارنتها بغيرها، خليط كنا، يجمعنا ويوزعنا، نلتهي ونكتوي، ندخل إلى يفاعتنا من بوابة المشاكسة، وارتكاب البراءات، نجد الجدّ غير ملائم لأحلامنا، فنقذف به إلى خارج أسوار الكلية، نهتف: تسقط الحكومة، نحتج على إلغاء نتائج الانتخابات الطلابية، التي شهدت صعوداً مفاجئاً لقوى اليسار، نواجه رصاص آمر الانضباط العسكري (سعيد صليبي)، أيام حكم عارف الثاني، نلهو، نلوك النكات البذيئة، نكتب كلمات عشق بريئة على صفحات الدفاتر ونسرّبها إلى طالبات يافعات ـ أغلبهن قادمات من محافظات خارج العاصمة ـ يقتنصن نظراتنا الساخنة في حمأة المواجهة والتظاهر، والعطش العاطفي. نعود للشارع بلهفة عندما نستلم المخصصات الشهرية لطلبة القسم الداخلي، لنتغدى أكلة (قوزي الشام) اللذيذة، أو كباب الإخلاص بشهية لا حدود لها.
تعود العلاقة بشارع المتنبي لعقود من الزمن، فيه تختلط رائحة الورق وأحبار الطباعة وأصوات الباعة بوقع خطوات المارين، ينهض مطعم «تاجران» و»كباب الإخلاص» بذكراهما العتيقة كأنهما جزء من ذاكرة المدينة، كانت وجباتهما تترك اثراً لا يمحى. مرَ أكثر من نصف قرن، تغيرت الوجوه، والأزقة، والواجهات، كل شيء تغير، إلا تلك الرائحة واللغة الخفية، التي تختزنها الروح، لم تتغير، كان للنكهة سحر خاص، وللألفة والحنين الجميل طعم لا يزول.
في تسعينيات القرن الماضي أخذت العلاقة بالشارع منحى آخر، حين داهمتنا ألوان شتى من الحصارات، الحصار الأول الذي تلبسنا وأخذنا من هويتنا إلى هاويتنا، لأن الممنوع هو كل ما يمكن، وما لا يمكن تصوره يوم كان «المتنبي» وسيطاً لتهريب كنوز الثقافة العراقية من المخطوطات، والآثار، ومجلات «سومر» و»المورد» إلى دول الجوار، وتحولت الأرصفة إلى مكتبات حزينة تحمل آثار جوع المثقفين والأدباء والأساتذة، يوم كانت لقمة العيش أفرض من أي شيء، تلك من أكثر الصور مرارة وقسوة في ذاكرة شارع المتنبي، حين صار الكتاب رغيفاً وقت أيام الشحوب والخوف. لم أجد سبيلاً للعيش سوى ذاك الملاذ الذي لا يبعد عن مقهى «الشابندر»، إلا خطوات، أعود من جديد لمهنة التكسب، كنت قد غادرتها منذ سنوات لأجرّب حظي فيها، عدت إلى (الخط)، في غرفة معلّقة، مشرفة على الشارع في بناية قديمة هرمة، سرعان ما أضحى المكان ملتقى للرائحين والقادمين، وهو ليس ببعيد عن عيون أفراد الأجهزة الأمنية المنتشرين طوال الوقت في الشارع. شعرت بخطورة المكان حين فوجئت بسرقة محتويات المكتب صباح أحد الأيام، كنت في المساء الذي سبق الحادث، قد نسيت كتاب حسن العلوي (الشيعة والدولة القومية) في أحد أدراج الطاولة، الكتاب نسخة أصلية كنت قد استعرتها من صديقي الفنان محمود حمد، وكالعادة أعرتها لصديق آخر، هكذا كنا لا نحسب حساباً لحجم المخاطر التي تحيط بنا، أحياناً بسذاجة أو بغفلة!
حالاً اتجهت إلى الطاولة، لم أجد الكتاب! يا ويلتاه! ماذا أقول لمحمود؟ كيف يصدقني، وأنا؟ إلى أين المفر؟ لم يكن أمامي أي خيار سوى قفل الباب والهروب، لكن إلى أين؟ اخترت هجرة المكان تحسباً لوقوع الأسوأ، عدت إليه في أحد الصباحات محملاً بشيء من الاطمئنان الداخلي. هناك على الرصيف كانت مقتنياتي المسروقة معروضة بعفوية غريبة باستثناء كتاب العلوي بالطبع، تحولت لحظة الخوف إلى دهشة صامتة، كان البائع الذي عرضها صديقي (س)، لم يكن هو (السارق) بالتأكيد، لكن حاولت أن يدلّني على الشخص الذي اشترى منه المسروقات، من الصعب عليّ أن أسأله عن مصير الكتاب! امتنع وسكت، لحظتها تبدد خوفي وقلقي، كأن صمته حماية سرٍ صغير بيننا.
السؤال الذي أحاول الإجابة عليه، ما الأسرار التي ينطوي عليها هذا المكان؟ ما دلالاته ورموزه؟ إنها أسئلة تحمل العديد من الإيحاءات، والحكايات. منها ان شارع المتنبي يختصر متعة (المثقف)، على الرغم مما تعرض له من تدمير، وازاحة وجوده الرمزي، ظل يحتفظ بمعناه في جدال مع تاريخه، ليقول لنا دائماً: إنه مصدر النور، واستمرار الحياة.
كاتب عراقي