تُعدّ قمة «منظمة شنغهاي للتعاون» لعام 2025، التي استضافتها الصين، محطة مفصلية في مسار المنظمة منذ تأسيسها عام 2001. فقد انعقدت القمة في سياق دولي بالغ التعقيد، تتشابك فيه أزمات جيوسياسية واقتصادية وأمنية تؤثر بصورة مباشرة على الدول الأعضاء. إذ جاءت القمة في ظل احتدام المواجهة التجارية بين الولايات المتحدة وكل من الصين والهند، واستمرار الحرب الروسية في أوكرانيا وما تفرضه من انعكاسات أمنية واقتصادية على الفضاء الأوراسي، إلى جانب تعقّد الملف النووي الإيراني وتصاعد التوتر إثر حرب الـ12 يوماً الإسرائيلية على إيران التي تخللتها ضربات أمريكية لمنشآت نووية إيرانية. كما تزامنت مع الحرب الإسرائيلية على غزة وتداعياتها الإقليمية والدولية، ومع تصاعد التوتر بشأن قضية تايوان، فضلاً عن قضايا عالمية أخرى مثل أمن الطاقة، والتحولات في النظام المالي الدولي، وتغيّر المناخ.
ضمن هذا المشهد الدولي المليء بالتحديات، اكتسبت قمة شنغهاي 2025 أهمية استثنائية، ليس فقط لكونها ساحة لتنسيق المواقف بين القوى الكبرى في أوراسيا، بل أيضاً باعتبارها مؤشراً على إعادة رسم التوازنات في النظام الدولي. وقد مثّلت القمة فرصة أمام الدول الأعضاء للتأكيد على رؤيتها المشتركة لنظام عالمي متعدد الأقطاب، والسعي إلى تعزيز أدوات التعاون الاقتصادي والمالي والأمني، بما يعكس تزايد وزن المنظمة في القضايا الإقليمية والدولية على حد سواء.
لمحة تاريخية… ومسارات التطوُّر
تشكّلت مجموعة «شنغهاي الخماسية» عام 1996، نتيجة الحاجة إلى صيغة إقليمية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي تنزع فتيل التوتر على الحدود، وتبني جسور ثقة بين القوى الكبرى والجمهوريات المستقلة حديثًا في آسيا الوسطى. حينها، لم يكن يخطر ببال كثيرين أن تلك المجموعة الصغيرة التي أُنشئت لتسوية نزاعات حدودية ستتحوّل إلى تكتل يضم أكبر قوتين آسيويتين: الصين والهند، مع روسيا ودول آسيا الوسطى، ثم إيران وبيلاروسيا لاحقًا، بحيث بدأت تظهر ملامح مشروع أوسع من كونه مجرد منتدى أمني إلى منصة لإعادة تشكيل قواعد اللعبة الدولية.
وجمعت المجموعة الصين وروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان، وتطورت هذه الصيغة عام 2001 مع انضمام أوزبكستان، فتحوّلت الخماسية إلى منظمة كاملة تحمل اسم «منظمة شنغهاي للتعاون»، لتنتقل من معالجة الملفات الحدودية إلى ساحة أوسع من التعاون الأمني والسياسي. وبعد إقرار ميثاقها في سان بطرسبورغ عام 2002 ودخوله حيّز التنفيذ عام 2003، بدأت المنظمة تُشكّل لنفسها مؤسسات دائمة مثل: الأمانة العامة في بكين، وهيئة مكافحة الإرهاب في طشقند… الأمر الذي منحها أدوات تنفيذية لمكافحة ما سمّي «الشرور الثلاثة» (الإرهاب، والانفصالية، والتطرّف).
اتجاهات التأثير
على مدى العقدين الماضيين، توسّعت المنظمة جغرافيًا وديموغرافيًا. فالهند وباكستان انضمتا رسميًا عام 2017 مُشكلاً ذلك قفزة نوعية، ولا سيما أنها نجحت بجمع نيودلهي وإسلام آباد، كخصمَين استراتيجيّين داخل إطار إقليمي واحد. وباتت المنظمة بهذا التوسّع تُمثل أكثر من نصف سكان أوراسيا، وارتفعت مكانتها كأكبر تكتل إقليمي من حيث عدد السكان.
أضحت إيران في العام 2023 عضواً كاملاً، ما منحها بوابة رسمية إلى ترتيبات إقليمية بديلة عن الغرب. ولحقت بها بيلاروسيا عام 2024، وهو تطور عزّز البعد الأوروبي ـ الآسيوي للمنظمة، وربَطها جغرافيًا أكثر بروسيا الشرقية وأوروبا الشرقية. أفضى حضور الهند وباكستان ثم إيران وبيلاروسيا، إلى تجسيد المنظمة عمليًا لمفهوم أوراسيا الكبرى، بمعنى التكتل الذي يمتد من المحيط الهادئ إلى أوروبا الشرقية. فأوراسيا ليست تسمية جغرافية تجمع بين آسيا وأوروبا فحسب، بل هي فضاء استراتيجي مترامي الأطراف يمتد من حدود الصين شرقًا إلى أوروبا الشرقية غربًا، ويضم أهم طرق الطاقة والنقل والموارد الطبيعية. بالنسبة للصين وروسيا، تمثل هذه البقعة الجغرافية عمقًا حيويًا ومسرحًا لصراع النفوذ مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
تحظى عشر دول اليوم بالعضوية الدائمة في منظمة شنغهاي. وإلى هؤلاء، هناك دولتان بصفة مراقب هما: أفغانستان وأنغولا، و14 دولة بصفة شريك حوار منها 6 دول عربية هي: مصر، والسعودية، والإمارات، والكويت، وقطر، والبحرين، إضافة إلى تركيا، وسريلانكا، ونيبال، وأذربيجان، وأرمينيا، وكمبوديا، المالديف، ميانمار.
ومنذ أن أطلقت الصين مبادرة «الحزام والطريق» في 2013، بدا أن هدف بكين هو استخدام المنظمة كمنصة سياسية داعمة للبنية التحتية العابرة للحدود مع مشاريع الربط الكبرى. وتوسّع جدول أعمالها ليشمل: الطاقة، والنقل، والتعليم، والثقافة، لتتحوّل من منظمة أمنية إلى إطار متعدد الوظائف، منها الأمني والسياسي والاقتصادي.
لا شك في أنَّ كلاً من الصين وروسيا تعمل على توظيف منظمة شنغهاي للتعاون كإطار مؤسسي يعكس توجهًا نحو نظام دولي متعدد الأقطاب، في مقابل ما تُعدّه هيمنة غربية تقودها الولايات المتحدة.
الشرق الأوسط: الامتداد الجديد
دخل الشرق الأوسط رسميًا في حسابات شنغهاي بفعل وجود إيران ودخول مصر ودول الخليج بصفة شركاء حوار. ولم يعد تأثير المنظمة محصوراً فقط في آسيا الوسطى كمختبر نفوذ. فالأبعاد الاقتصادية في الشرق الأوسط كانت ماثلة من حيث إمكانية تمويل مشاريع طاقة متجددة وبنى تحتية خارج المنظومة الغربية، ومن حيث ربط صادرات النفط والغاز باتفاقات تسوية بـ«اليوان» أو «الروبل»، ما يُقلّص اعتماد المنطقة على الدولار، وكذلك توفير منصة للدول العربية لتوسيع خياراتها بين الشرق والغرب، خصوصًا في ظل الضغوط الأمريكية والأوروبية.
ويرى مراقبون أن القول إن المنطقة العربية تجد نفسها أمام خيار استراتيجي جدّي في علاقتها مع منظمة شنغهاي هو قول صحيح، إذ يمكن لدول الشرق الأوسط الاستفادة من فرص التمويل والمشاريع التي تتيحها المبادرات الصينية والروسية في مجالات مثل: الطاقة المتجددة، والبنية التحتية، والاقتصاد الرقمي. ولكن قد يؤدي الانخراط العميق في هذا المسار إلى زيادة الضغوط الغربية، وخاصة الأمريكية، الساعية إلى الحد من نشوء مؤسسات مالية بديلة. لذلك، تبقى المعضلة أمام العواصم العربية هي في كيفية تحقيق التوازن بين الشراكات التقليدية مع الغرب والانفتاح المتنامي على الشرق. ففي حين تنظر دول مثل السعودية وقطر إلى المنظمة كإطار لتنويع العلاقات الاقتصادية والمالية، ترى مصر فيها فرصة للحصول على تمويل لمشروعات البنية التحتية بعيدًا عن شروط المؤسسات الغربية التقليدية.
استراتيجية العشر سنوات
و«الثلاثي» في صورة
شكّلت قمة تيانجين 2025 محطة فارقة في مسيرة المنظمة. ويمكن تلخيص ما جرى في القمة وما صدر عنها بالآتي:
أولاً، إعلان وتبني رؤية «أرض واحدة، أسرة واحدة، مستقبل واحد». فقد وافقت الدول الأعضاء رسميًا على الرؤية الهندية التي أطلقها رئيس الوزراء ناريندرا مودي، ضمن «إعلان تيانجين»، واضعة أسساً أيديولوجية للتعاون المستقبلي القائم على الأمن، والربط، والفرص المشتركة.
ثانياً: إطلاق مبادرات اقتصادية وتجارية جديدة، وتمثّل ذلك باقتراح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إصدار سندات مشتركة بين أعضاء المنظمة، وتأسيس بنية دفع وتصفية مستقلة، بالإضافة إلى بنك للمشاريع الاستثمارية المشتركة لتعزيز التعاون الاقتصادي وحماية الاقتصاد من الصدمات الخارجية، وبتأكيد الصين نيتها إنشاء بنك تنمية لمنظمة شنغهاي، وكذلك بناء ست منصات تعاون جديدة في عدة مجالات: الطاقة، الصناعة الخضراء، والاقتصاد الرقمي، والابتكار التكنولوجي، والتعليم العالي، والتدريب المهني.
ثالثاً: توسيع وتطوير هيكلية المنظمة. فقد اعتمدت القمة إستراتيجية التنمية حتى عام 2035، وأطلقت الوثيقة المعروفة باسم «إعلان تيانجين». وتم تأسيس أربعة مراكز جديدة للمنظمة في مجالات: مكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود، والأمن المعلوماتي، ومكافحة المخدّرات، وتحديات الأمن الداخلي. كما جمعت المنظمة بين فئات «المراقب» و«شريك للحوار» لتصبح فئات المنظمات الشريكة موحدة، وتم قبول لاوس كشريك للحوار.
رابعاً: التصريحات الرمزية والقضايا؛ أصدرت المنظمة بيانًا قبل الاحتفال بالذكرى 80 لنهاية الحرب العالمية الثانية، ومعاهدة الأمم المتحدة. تؤكد فيه أن المنظمة «تقف في صفّ التاريخ الصحيح». وتداولت القمة مواضيع عدة مثل: الأمن، والتجارة، والاستقرار الإقليمي، وتنمية البنية التحتية في سياق مبادرة «الحزام والطريق»، فيما أكد قادة المنطقة دعمهم لمنع التطرّف، ودعم التجارة المتعددة الأطراف، والحفاظ على سيادة الدول وحقها في التنمية.
الثلاثي و«الصورة المزعزعة»
أما خامساً، فقد حملت القمة إشارات على عزم لتوافق استراتيجي واضح بين قادة الصين وروسيا والهند، حيث بدا زعماء: الصين شي جينبيغ، وبوتين، ومودي، موحّدين بصورة رمزية أمام العالم، متحدّين سياسة «الهيمنة الغربية». وعكست تصرفاتهم دلالات جيوسياسية بقيام بعض المراقبين بوصفهم «محور الزعزعة». وتذهب القراءات إلى أن مودي استثمر المنصة لإرسال رسائل دبلوماسية متعددة: إلى واشنطن، وإلى باكستان، وإلى بكين، مؤكّدًا استقلالية الهند وحماية مصالحها الاستراتيجية.
ولم تقتصر القمة على الجانب الاقتصادي والسياسي، بل رافقها عرض عسكري صيني واسع في تيانجين، شاركت فيه قوات برية وصاروخية وجوية. وفي رأي متابعين أن العرض حمل رسائل متعددة: أولها إلى الولايات المتحدة بأن سياسة الاحتواء لن تمنع الصين من تعزيز تحالفاتها وتوسيع نفوذها. وثانيها إلى حلف الناتو بأن بكين وموسكو تمتلكان قدرات ردع عسكرية وسياسية متزايدة. أما ثالث الرسائل، فإلى شركاء المنظمة، ومفادها أن التعاون الاقتصادي في إطار شنغهاي يستند إلى مظلة قوة صلبة تحمي مصالح الأعضاء.
مرارة أمريكية بلباس ساخر
كان لافتاً تعليق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على صورة الثلاثي (شي، وبوتين، ومودي)، عبر منشور على منصة «تروث سوشال» بالقول: «يبدو أننا خسرنا الهند وروسيا لصالح الصين الأشد عمقًا وظلامًا. نتمنى لهم معًا مستقبلًا طويلًا ومزدهرًا!» وفي تعليق آخر على الصورة، قال: «عرض لطموح جماعي. يتمنون أن أكون أشاهدهم… وقد كنت». وباتت التساؤلات عما إذا كانت الموقف الساخر لترامب يُعبّر عن غصبه من ميل الهند نحو الصين في ظل توترات العلاقات التجارية مع واشنطن بعد فرضه رسوماً جمركية تصل إلى 50% على واردات الهند من البضائع، ومن ميل روسيا نحو «التنين الأصفر»، وهو الذي يغازل بوتين واستقبله استقبال «الفاتح» كاسراً الحصار الغربي عليه. على أن بعض المراقبين يرون أن تعليق ترامب يسلّط الضوء على تقلّص النفوذ الأمريكي في آسيا، ويعكس قلقه من فكرة «التحالف المُضاد» الذي بدأت تشكّله الصين، وروسيا، والهند!
وجاء كلام وزير الخزانة الأمريكي، سكوت بيسنت، أكثر مباشرة، بوصفه قادة الهند والصين وروسيا بأنهم «جهات فاعلة سيئة»، معتبراً أن قمة منظمة شنغهاي كانت شكلاً استعراضياً كبيراً، وأن التكتل يبدو رمزيًا دون تحقيق نتائج ملموسة. ولكن رغم النقد، عبّر بيسنت أيضًا عن تفاؤله بشأن إمكانية إيجاد حل للتوترات التجارية بين واشنطن ونيودلهي، ملمّحًا إلى أن العلاقة مع الهند لا تزال «قوية» رغم التباعد الحالي.
واعتبرت أوساط أمريكية أن القمة تُظهر ميل القادة الآسيويين نحو تشكيل توازن جيوسياسي بعيدًا عن التأطير الأمريكي. وقالت «الواشنطن بوست» إن السياقات البارزة أكدت أن الهند، على وجه الخصوص، تسعى لـ«تحقيق استقلال استراتيجي»، في ظل توترات مع أمريكا بسبب فرض رسوم 50% على وارداتها. أما «الغارديان» البريطانية، فرأت أن السياسيين في واشنطن قد يشجعون سياسات تجعل الهند أقل اعتمادًا، وهو ما قد يُضعف أطر التعاون مثل «الحوار الأمني الرباعي»، وهو الإطار الاستراتيجي غير الرسمي الذي يضم الولايات المتحدة، اليابان، الهند، وأستراليا، والمعروف اختصارًا بـ الـ»كواد» في حين تُسهم القمة في تعزيز موقع الصين كمحور رئيسي في النظام المتعدد الأقطاب.
بين الطموحات والواقع
جاءت مخرجات تيانجين لتقول إن الصين وروسيا ليستا معزولتين رغم العقوبات، وأن الهند قادرة على التوازن بين واشنطن وشنغهاي مع مشاركتها في صياغة الإعلان، وأن أوراسيا الكبرى باتت مشروعاً مؤسساتياً قائماً وليس مجرد شعار سياسي، وأن أمام الشرق الأوسط خيارات اقتصادية وسياسية متنوعة وربما بديلة.
باختصار، تطوّرت منظمة شنغهاي للتعاون من إطار يهدف أساسًا إلى ضبط الحدود وبناء الثقة بين دول آسيا الوسطى إلى تكتل يمتد بُعده من أوراسيا إلى الشرق الأوسط، مع توسيع نطاق عمله ليشمل ملفات الأمن والاقتصاد والتعاون المؤسسي. وقد أبرزت قمة تيانجين 2025، من خلال الاستراتيجية المعتمدة حتى 2035 والعرض العسكري الصيني الموازي لها، مؤشرات على تحولات أعمق في موازين القوى الدولية، حيث يبرز الاتجاه نحو مرحلة ما بعد الأحادية القطبية، مع تصاعد دور أوراسيا كفاعل مؤثر في النظام العالمي.
على ان السؤال يبقى: هل وصلت المنظمة إلى مستوى التحالف الموحّد في مواجهة الغرب، وتشكيل البديل للنظام الدولي؟ من الصعب استنتاج ذلك والاتكاء عليه في نسج الحسابات الدولية. ما يمكن استخلاصه أن المنظمة باتت تمثل ساحة مهمة لإعادة تشكيل موازين القوى على الصعيد الدولي دون أن يعني ذلك أن النجاح المحقّق سيكون من نصيبها.
ملاحظة: تمّت الاستعانة بالذكاء الاصطناعي (شات جي بي تي) في هذا التحقيق.