إسطنبول: إدارة مشاريع سدود دون دراسة الهندسة، وممارسة الطب النفسي بدون دخول كلية الطب.. ما كان يُنظر إليه كأمر عبثي أو مستحيل، أصبح واقعاً صادماً في تركيا، إذ كشفت السلطات التركية مؤخراً النقاب عن وقائع تزوير واسعة النطاق لشهادات جامعية ورخص قيادة وغيرها من الوثائق، في قضية احتيال ضخمة تهز البلاد منذ أسابيع، ولا تزال أبعادها الكاملة غير واضحة حتى الآن.
بحسب وزارة العدل التركية، تمكنت عصابة من المحتالين من الحصول على رموز دخول سرية لمسؤولين رفيعي المستوى، ما أتاح لهم الوصول إلى قواعد بيانات حكومية والتلاعب بها.
صرح عامل تنظيف السجاد بأنه يمارس مهنة الطب النفسي، مدعياً أنه أتم دراسة علم النفس في الخارج، وأنه استعان فقط بشركة لمعادلة شهادته في تركيا
وتشمل الجهات المتضررة هيئة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (بي تي كيه) ووزارة التعليم وعدداً من الجامعات البارزة. وتحدثت وسائل إعلام عن تداول مئات الشهادات الجامعية المزورة، بينما أقرت الحكومة بوجود نحو 60 شهادة مزورة، وأكثر من 100 رخصة قيادة مزيفة.
هل الأرقام المعلنة تمثل فقط “قمة جبل الجليد”؟
أعلن وزير العدل التركي، يلماز تونج، أن النيابة العامة وجهت اتهامات إلى 199 مشتبهاً بهم تشمل تزوير شهادات إلكترونية، والتلاعب بالبيانات، والوصول غير المشروع إلى معلومات شخصية، بحسب وكالة الأنباء التركية الرسمية “الأناضول”. ومن المنتظر أن تُحال القضايا إلى القضاء خلال سبتمبر/أيلول الجاري.
وبحسب تقارير إعلامية، بدأت أولى الشكاوى أواخر عام 2024، والتي وُجهت إلى إحدى الجامعات في العاصمة أنقرة، وتبعها تحقيق موسع. وأكد وزير الداخلية، علي يرلي قايا، في تصريحات، مطلع أغسطس/آب الماضي، أن “المنظمة الإجرامية تم تفكيكها واعتقال أعضائها”، إلا أن مراقبين حذروا من أن القضية أوسع بكثير مما أُعلن.
في هذا الصدد، وجّه الصحافي الاستقصائي مراد أجيريل انتقادات للحكومة، متهماً إياها بمحاولة التقليل من حجم القضية، خشية أن يكون من بين المتورطين فيها شخصيات سياسية مهمة. وتصدر نائب وزير النقل، عمر فاتح سايان، عناوين الصحف بعد الحديث عن حصوله على عشر شهادات علمية ودرجتي دكتوراه. ونفى سايان أي شبهات حول هذه الشهادات، مؤكداً أنه درس طوال حياته وسيواصل مسيرته الأكاديمية.
بيانات ضحايا الزلزال في قبضة المحتالين
بعد أن أثارت وقائع تم الكشف عنها موجة سخرية، أخذت الفضيحة بعداً مأساوياً عندما تبين أن المحتالين حذفوا بيانات محامين لقوا حتفهم في زلزال عام 2023 من السجلات واستخدموها لصالح عملائهم. واعتبر مراد كيريك، الخبير في تقنيات المعلومات والأستاذ في جامعة مرمرة في إسطنبول، أن ما حدث فضيحة متكاملة الأركان، مشيراً، في تصريحات لمحطة “خبر تورك”، إلى أن المحتالين مارسوا جرائمهم بطريقة شاملة ومنظمة للغاية.
من جانبه قال فيصل أولوسوي، الرئيس السابق لمعهد العلوم الاجتماعية بجامعة “يدي تبة” في إسطنبول، والذي يعمل حالياً في جامعة هارفارد، إنه يرى أن حجم المشكلة أكبر بكثير مما هو مُعلن، مضيفاً أن المشكلة “أكثر تعقيداً ومتشابكة مع السياسة والمؤسسات، وتمتد إلى قرارات التعيين والترقية، وحتى نقل الطلاب دولياً”، موضحاً أنه سبق أن واجه حالات مشابهة خلال توليه رئاسة المعهد، إلا أن مجلس الجامعة لم يستجب لتحذيراته.
بيع الشهادات عبر “واتساب”
وبحسب محطة “هالك تي في”، كان الحصول على الوثائق المزورة أمراً في غاية السهولة، حيث كان يمكن طلب شراء شهادة جامعية بمنتهى اليسر عبر تطبيق المراسلات “واتساب”، كما انتشرت إعلانات عبر مواقع التواصل الاجتماعي تروج لخدمات إصدار وثائق بأسعار تصل إلى آلاف اليورو بحسب طبيعة كل وثيقة. وتم حفظ هذه الوثائق المزورة في النظام الإلكتروني الحكومي الذي يستخدمه الأتراك لإنجاز جميع معاملاتهم الإدارية الرسمية.
من أبرز ما كُشف اتهام رجل أعمال بشراء شهادة هندسة مدنية مزيفة من جامعة “يلدز” المرموقة. وكانت شركته نفذت مشاريع ضخمة، من بينها بناء أربعة سدود
ومن أبرز ما كُشف في إطار التحقيقات، اتهام رجل أعمال بشراء شهادة هندسة مدنية مزيفة من جامعة “يلدز” التقنية المرموقة في إسطنبول. وكانت شركته نفذت مشاريع ضخمة، من بينها بناء أربعة سدود في تركيا، بحسب بيانات موقع “Serbestiyet” الإلكتروني الناقد للحكومة. وذكر المتهم أنه لم يكن يعلم أن مثل هذه الشهادة تم تحميلها على النظام الإلكتروني الحكومي.
كما صرح عامل في تنظيف السجاد بأنه يمارس مهنة الطب النفسي، مدعياً أنه أتم دراسة علم النفس في الخارج، وأنه استعان فقط بشركة لمعادلة شهادته في تركيا، إلا أن هذه الشركة استصدرت شهادة جديدة من جامعة تركية دون موافقته، بحسب ادعاءاته.
ورغم التحقيقات، لا تزال الفضيحة تقوض الثقة في الدولة ومؤسساتها، خاصة بعد سحب الشهادة الجامعية الخاصة بعمدة إسطنبول السابق المعتقل، أكرم إمام أوغلو، والذي يعتبر منافساً للرئيس رجب طيب أردوغان.
ويتساءل الكثير من الأتراك حالياً عن مدى قيمة شهاداتهم الجامعية. وفي يوليو/تموز الماضي، مزق خريج من جامعة البوسفور المرموقة في إسطنبول شهادته احتجاجاً على فضيحة الوثائق المزورة، معلناً أن “هذه الشهادة غير صالحة”. وأُلقي القبض عليه لاحقاً بسبب ذلك.
(د ب أ)