بغداد/ تبارك عبد المجيد
لم يعد صوت المياه يملأ الأهوار، ولا نقيق الضفادع يختلط بأغاني الصيادين عند الغروب، الأهوار التي كانت توصف يوماً بـ "جنة الجنوب"، أصبحت اليوم أرضا متيبسة متشققة متربة، بعد أن أماتها الجفاف والإهمال.
رغم كثرة النقاشات حول هذا الملف في ذي قار، مع الجهات الرسمية ووسائل الإعلام، سواء ما يتعلق بالجفاف أو آثار التغيرات المناخية إلا أن تبعاته ما زالت تلقي بثقلها السلبي على المواطنين، الذين وجدوا أنفسهم في النهاية مضطرين إلى الهجرة كخيار إجبروا عليه.
يصف الحاج سالم حسين، مربي الأسماك في أهوار الناصرية، التحوّل القاسي الذي أصاب منطقته بعد أن كانت تضج بالحياة، فيتحدث لـ "المدى" بنبرة يغلبها الحنين: "كانت الأهوار مليئة بالماء والخير .. لكن هذا الخير صار نادرا إبتداء من المسكوف العراقي، وإنتهاء بالقيمر العربي المستخرج من حليب الجاموس، كانت الأهوار جنة الجنوب، واليوم تحولت الى صحراء قاحلة، الأنهار جفت، الهواء صار ثقيلاً، والحرارة تزداد عام بعد عام، هذه ليست مجرد أزمة مياه، إنها كارثة مناخية حقيقية ذبحت الأهوار، وتركت أهلها بين عطشٍ وحنين".
ويكمل: "الأسماك نفقت، والناس صاروا يحفرون الأرض بحثاً عن قطرة ماء، والمزارعون تركوا أراضيهم، والصيادون هجروا شباكهم بحثاً عن عمل في المطاعم أو في البناء، حرفتنا ضاعت، ومعها ضاع جزء كبير من حياتنا."
لم يخفِ الحاج سالم استيائه من غياب دور الجهات المسؤولة، قائلًا: "موظفو الموارد المائية يداومون للظهر ويعودون لمنازلهم دون أي عمل حقيقي، ماكو زيارات، ماكو حلول، الجاموس ينقرض، والثروة السمكية انتهت، وهم بعدهم يكتبون كتب على الورق."
كما انتقد قرار وزارة الموارد المائية منع نقل الأسماك والأعلاف بين المحافظات، واصفاً إياه بأنه قرار "كارثي" ضرب ما تبقى من المنتج المحلي: "المنتج المحلي محارب، يريدون يعيشون العراق على المستورد. بلدنا اللي كان يفيض بالخير صار ينتظر من يطعمه."
ويتابع الحاج سالم حديثه وهو يتنهد بمرارة: الأهوار تموت بصمت... التغيّر المناخي غيّر حياتنا كلها، الجنوب عطشان، وماكو أحد يسمع صوتنا.
التغيرات المناخية غطاء لفشل إدارة المياه!
يؤكد نصير باقر، عضو منظمة "حماة دجلة"، أن ما يطرح من تحذيرات بشأن التغيرات المناخية غالباً ما يُستخدم كـ"شماعة" لتغطية إخفاقات إدارة ملف المياه في العراق، وخاصة في محافظة ذي قار.
ويقول باقر لـ (المدى)، انه "بالنسبة لي، التغيرات المناخية ليست السبب الرئيس في أزمة المياه، المشكلة الأساسية تكمن في الإدارة الداخلية السيئة للمياه، والتي لا ترتقي إلى مستوى التحديات الكبيرة التي يواجهها البلد". ويضيف: "صحيح أن العراق يعيش حالة جفاف طويلة الأمد، إلا أن صاحب القرار عاجز عن إيجاد حلول عملية لهذه الأزمة، وتصرفاته لا توحي بالمسؤولية أو القدرة على التعامل مع هذه المشكلة بشكل فعال".
ويشير باقر إلى أن السكان المحليين قد تضرروا بشكل كبير، خصوصاً الصيادين ومربي الجاموس، نتيجة ندرة المياه في مناطق الأهوار ومناطق مثل ذي قار، ويستطرد: "الهجرة الداخلية إزدادت بشكل ملحوظ، وشهدت المدن تغييرات ديموغرافية واضحة، خصوصاً في مدينة الناصرية، مركز محافظة ذي قار، حيث نزح الكثيرون من الريف ومناطق الأهوار إلى المدينة".
ويؤكد باقر أن هذا الوضع يدفع إلى الاستنتاج أن "التغيرات المناخية غالباً ما يُستغلها أصحاب القرار كغطاء لتعويض إخفاقاتهم في إدارة الموارد المائية، وفي ذي قار تحديداً". ويختتم حديثه قائلاً: "أتمنى أن يُثبت هذا الرأي في أي تحليل أو مقالة حول أزمة المياه في العراق، لأن الواقع يوضح أن سوء الإدارة هو السبب الرئيسي لمعاناة السكان".
ملف يواجه "الإهمال"!
يرى الناشط البيئي حيدر السومري أن ملف التغير المناخي في العراق، لا سيما في جنوب البلاد وبمحافظة ذي قار، ظل لفترة طويلة مهملاً من قبل الجهات الحكومية والمجتمع المدني.
ويشير السومري إلى أن التجارب منذ عام 2010 أظهرت غياب اهتمام شعبي وإداري بقضايا البيئة والتغيرات المناخية، وأن التعامل مع هذا الملف كان ضعيفاً جداً حتى عام 2020.
ويضيف السومري لـ (المدى)، انه "مع بداية عقد 2020، بدأ المجتمع المدني يولي اهتماماً أكبر بالموضوع، إلا أننا واجهنا تحديات كبيرة بسبب ضعف استجابة الجهات الحكومية، حتى عام 2021 عندما بدأت اتفاقيات باريس للمناخ واتفاقيات مؤتمر الأطراف بالانتشار، وانضم العراق إليها، فبدأ يظهر نوع من التعاون بين الحكومة ومنظمات المجتمع المدني، لكن التحدي الأكبر ما زال قائماً".
ويحدد السومري أبرز العقبات: "الوعي البيئي عند غالبية أفراد المجتمع شبه معدوم، وهناك حاجة لفرض سياسات وقرارات صارمة، بما في ذلك الغرامات المتعلقة بانتهاك الحدائق والمرافق العامة. كما أن هناك مخالفات واضحة في مركز مدينة الناصرية، سواء من مخلفات المصانع أو استخدام الطاقة الشمسية غير المنظم".
ويؤكد السومري، "أن الفئات الأكثر تضرراً من التغيرات المناخية هي النساء وكبار السن والأطفال، خاصة في ظل النزاعات والصراعات الطائفية على الموارد مثل المياه، ونقص المواد الأساسية وفرص العمل. ويضيف: "غياب البنى التحتية المتكاملة، والتعليم غير المستقر، وفرص العمل المحدودة كلها عوامل تزيد من هشاشة هذه الفئات".
كما يوضح السومري أن التغيرات المناخية تؤدي إلى تحولات ديموغرافية حقيقية، حيث يضطر السكان للانتقال من مناطقهم إلى مناطق أخرى بحثاً عن فرص أفضل، ما يخلق تحديات اجتماعية وثقافية نتيجة الاختلاف في اللغة واللهجة والعادات، فضلاً عن صعوبة التكيف مع البيئة الجديدة.
ويتابع السومري بالقول: "هذه التغيرات المناخية ليست مجرد قضية بيئية، بل هي عامل مؤثر على الاقتصاد والمجتمع، إذ تسبب نقص الغذاء وفرص العمل، وتؤدي إلى صراعات وتزاحم على الموارد. الواقع الذي نراه اليوم في الناصرية يعكس ما يحدث تقريباً في كل مناطق الجنوب".